بالفيديو والصور.. شيخ الجراحين د.إبراهيم بدران رئيس المجمع العلمي يفتح قلبه لحديث الذكريات مع "بوابة الأهرام"




عندما تفتح وعيه على الحياة، كان الألم في حياة الدكتور إبراهيم بدران، وزير الصحة الأسبق ورئيس المجمع العلمي حاليًا، هو تجربته الأولى، فقد رأى بوعي الطفولة الحائر ما بين الواقع والخيال، كائنين يهبطان من السماء، وكأنهما ملكان ملتحفان بالغمام، ليستقرا في غرفة أمه الراقدة على فراش المرض الأخير الذي سجلت به أول اكتشاف طبي "للذبحة الصدرية" في مصر.

ثم تصعد معهما الأم في رحلة غامضة إلى عالم مجهول مفعم برهبة، لم يدركها عقل الطفل وقتئذ، غير أنه شعر بوخز الألم في قلبه الصغير.

ربما كانت هذه التجربة الطفولية هي التى دفعت الطفل أو غرست في اللاوعي الكامن فيه، لأنه تمنى في قرارة نفسه أن يكون طبيبا لتكون رسالته في الحياة هي أن يخفف الآلام عن المرضى.

نشأ إبراهيم بدران في منطقة منيل الروضة وكان مولده في يوم 27 أكتوبر 1924 تلك السنة المليئة بالأحداث الجسام في تاريخ مصر الحديث، والتى جرت فيها أول انتخابات تأتى برئيس وزراء مصري هو سعد زغلول.

يتذكر الدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة الأسبق تلك الأيام المبكرة، فيرتفع صوته وينخفض مع فيض الذكريات: كنا في منيل نعيش في منزل من بين خمسة منازل و"سرايتين" تشكل منهم الحي السكني في المنطقة الهادئة التى يحتويها النيل في القاهرة.

ويغوص الدكتور بدران في عمق الذكريات وهو يسرد أسماء أصحاب البيوت: بجوار بيتنا، بيت سليمان عزمي عمد كلية الطب وبيت المستشار شرمي بك وبيت جاد بك بدر، ومن معالم المنطقة السراي الكبيرة المملوكة للأمير محمد على توفيق الذي كان ولا يزال حتى الآن في مكانه آية من آيات الفن المعماري وكذلك على مقربة منه تقبع سرايا إسماعيل باشا ذو الفقار.

أما أبي فقد كان ضابطا للبوليس في حكمدارية القاهرة وكان صديقا لأمير الشعراء أحمد شوقي ورفيق رحلته شاعر النيل حافظ إبراهيم.

ولم أر مثل وفاء هذا الأب العظيم لأمي التي رحلت في سني عمري الأولى، فقد أصيب أبي رحمه الله بشلل نصفي من فرط حزنه عليها.

إنك لا تعلم أن النعمة الكبرى التى وهبها الله للمخ الإنساني هو أنه قادر على إخفاء الأحداث المؤلمة التي يمر بها الإنسان ويلقى بها في خلفيات الذاكرة.. إن هذه نعمة كبرى.. نعمة كبرى.

ومع فقدي أمي، عوضني الله بعشرين من سيدات عائلتي على رأسهن شقيقتي الكبرى التى كانت هي أمي البديلة التي ربتني وكنت أرى فيها صورة أمي، كما كانت شقيقتي سعاد بدران هي ثاني فتاة مصرية تتخرج في كلية الحقوق.. كنا أسرة تقدس العلم والتعليم ومازالت ترن في إذني كلمات شطر بيت الشعر المأثور والشهير والأثير لأبي "العلم يرفع بيتا لا عماد له" وكان أخي الدكتور عثمان بدران (وزير الزراعة الأسبق) محبا للعلم واختار أن يدخل كلية الزراعة، وقد اختير للسفر في أول بعثة علمية إلى أمريكا، فهكذا كانت عائلتي.. آه عائلتي .. نسيت أن أذكر لك أني مثل الغالبية العظمى من سكان القاهرة من أصول خارج العاصمة، فأبي رحمه الله من مغاغة بالمنيا وأمي رحمها الله من الإسكندرية .. أي أني جمعت في دمي ما بين قبلي وبحري.

ومن كلمات أبي التي لا يزال أثرها مؤلما عند التذكر" المرض مذل وقهار" فقد عانى منه 8 سنوات بعد إصابته بجلطة أدت إلى الشلل ثمانية سنوات وكنت أنام كل ليلة تحت قدميه وكان يتابعه بشكل يومي الدكتور أنيس سلامة الذي كان يدخل إليه لمتابعة حالته في تمام الساعة الثامنة، لم يتأخر ولو لمرة واحدة طوال أيام المرض على مدى السنوات الثماني، وعلى فكرة د. أنيس هو أول مصري يحصل على الزمالة من الولايات المتحدة الأمريكية وكان مثالا للأستاذ الجامعي وهو شقيق الدكتور أمين سلامة أستاذ الأدب اليوناني.

كما كان من أصدقاء والدي أيضا، المرحوم بولس باشا حنا الذي كان يسكن حي الدقي وأذكر أن في حديقة بيته كنا نفرح جدا عندما نذهب لزيارته لكي نرى الغزلان وطائر الطاووس التى يقتنيها في حديقته.

وكان ثالثهما في دائرة الصداقة محمود حافظ رمضان شقيق رئيس الحزب الوطنى القديم بعد محمد فريد ومصطفى كامل.

ومن عجائب الأقدار أن الصديقين حنا ورمضان ماتا في يوم واحد في عام 1938.

كانت أيام خالدة في بدايات حياتى وكنت أرى تواصلا أسريا ونشعر جميعا أننا أعضاء في أسرة واحدة كبير، فلا زلت أعتز بأيام حياتى في مدرسة الناصرية بمنطقة معروف بوسط القاهرة أو مدسة الخديوي إسماعيل الثانوية التى درست فيها المرحلة الثانوية وحصلت فيها على الوجيهية ثم دخلت كلية الطب.

أيام الدراسة كنا عدد قليل من التلاميذ، منا المسلم والمسيحي واليهودي.. ولم يكن ثمة فرق يذكر ولا شعرنا بأيهة اختلافات، ولابد ان أذكر لك إن الدكتور أنيس سلامة الذي حدثتك عنه من قبل، كان مسيحيا.. فالرجل كان يأتى غلى والدي ليتابع حالته يوميا لأنه جارنا ولم يأخذ شيئا يذكر في مقابل ذلك.. لأنه كان يرى أنه يعالج رجلا في مقام أبيه.

وفي تلك الأيام كان الإعلام ممثلا في الصحف، على درجة عالية من الحرية رغم الاحتلال وشئون السياسة ومع الحرية كان هناك الوعي والمسئوليةولم يفلح الاحتلال في تشويه الصورة ولا في زعزعة الانتماء.

وفي الطريق إلى المدرسة تتراءى في الذاكرة، مشاهد الترماي العسكري الأسترالي الذي كان يعتمد عليهم الاحتلال البريطاني ويأتي بفاعيل طفولية.

والعجيب في الإنجليز أنك في معاملتك معهم لا تحترمهم سوى في بلادهم ودائما ما كنت في رحلاتي إلى بريطانيا أقول لأصدقائي منهم هناك: " إننا نكرهكم في بلادنا لكنا نحبكم في بلادكم".

وبالمناسبة لابد أن أذكر لك أنني على كثرة سفرياتي إلى بلاد العالم مثل دول أوروبا.. أمريكا.. الهند.. اليابان.. الكوريتين ، إلا أننى لم أذهب سوى لمهمات علمية فقط فلم أسافر أبدا للفسحة والتنزه".

فإيماني أن العلم يكون الأمة والتعليم يكون الإنسان، ولذلك كانت حياتى في خدمتهما مع الضلع الثالث للرسالة التى كلفت نفسي بها في الحياة وهي مقاومة المرض، فالمرض الذي يذل الإنسان ويقهره وهو عندي مقترن بالجوع والقضاء غعلى الجوع قضاء على المرض، فسلامة الغذاء تقوي الجسم وحتواء الغذاء على لحوم يقوي جهاز المناعة، فرسالة الطب التى اخترت شرف النتساب إليها هي رسالة اجتماعية إنسانية قبل كل شيء، وأنا على أعتاب إكمال السنة التسعين من العمر، مازالت رسالتى هي تخفيف آلام الناس.




















المصدر بوابة الاهرام

تعليقات

المشاركات الشائعة