صناعة الكذب.. تضليل الرأي العام علي شبكة الإنترنت


مع استخدام آلاف الملايين في كل دول العالم لمواقع التواصل الاجتماعي‏,‏ بدأت عملية إعادة توزيع كبيرة ومؤثرة للسلطة الإعلامية بين المواطن العادي والحراس التقليديين للبوابات الإعلامية‏-‏ من حكومات ومؤسسات وشركات‏-‏ الذين كانوا يحتكرون صناعة الرأي العام في الماضي‏,‏وظهر ما يعرف بـ الإعلام البديل أو الإعلام الشعبي أو صحافة المواطن‏.‏وقد تزايد دور هذا النوع من الإعلام مؤخرا نظرا لظهور الإعلام التقليدي طرفا في الصراعات التي يقوم بتغطيتها بما أثر سلبا في موضوعيته ومصداقيته لدي المتلقي‏.
وقد أصبحت عملية تشكيل الرأي العام أكثر تفاعلية, فالمتلقي لم يعد سلبيا يأخذ ما يقرأه ويشاهده علي أنه الحقيقة, بل أصبح شريكا في تشكيل هذا الرأي والتأثير عليه من خلال التعبير عن وجهة نظره فيما يحدث بحرية كاملة بكتابة تدوينات أو نشر صور ورسائل قصيرة علي مواقع التواصل الاجتماعي فيتفاعل معه آخرون قد يتأثرون به أو يؤثرون عليه. وقد يشارك أيضا بالتعليق علي الأخبار والمقالات المنشورة في المواقع الإخبارية بحرية يقرر حدودها مالكو هذه المواقع.
والسرعة في ظهور وتشكيل رأي عام علي الإنترنت سلاح ذو حدين, فالحقائق والأكاذيب أيضا قد تصل في دقائق إلي ملايين من مستخدمي الإنترنت حول العالم, حيث أصبحت الأولوية وبصورة كبيرة وواضحة للسبق والانتشار والتأثير السريع وخدمة أجندة مسبقة علي حساب المصداقية والموضوعية.
وفي مقابل ذلك ظهر مع تزايد دور الإعلام الشعبي ما يمكن تسميته بـ النضج الرقمي حيث ارتفع مستوي الوعي لدي فئة من مستخدمي شبكة الإنترنت كما يظهر في عدم قيام هؤلاء بإعادة نشر أو قبول ما يقرأوه أو يشاهدونه قبل التأكد من مصداقية مصدره وصحة ماينقله بطريقة أو بأخري قبل نقله إلي آخرين. هذا النضج كان فارقا في تشكيل الرأي العام حول الصراع في ليبيا من ناحية وحول الأحداث في سوريا ومصر من ناحية أخري. فظهرت علي سبيل المثال مبادرات فردية علي شكل صفحات قام بإنشاءها شباب علي فيسبوك متخصصة في البحث عن أصول الصور والفيديوهات والأخبار لتمييز الأصلي من المزيف والحقيقي من الكاذب. هذه المبادرات قد يكون تأثيرئها محدودا علي بعض المتلقين الذين اتخذوا مواقف مسبقة مما يحدث بصرف النظر عن صحة أو خطأ ما يقرأونه أو يشاهدوه. وهذا التأثير قد يكون كبيرا علي مواقف المتلقين الذين يحاولون فهم حقيقة ما يحدث ويقلل من مستوي التشتت والحيرة لديهم. وهذه الفئة هي التي يحاول الجميع من حكومات وشركات وأحزاب ومؤسسات إعلامية وإعلاميين- التأثير عليها, بأكثر من طريقة, وهو ما نعرض لأمثلة منه فيما يلي.
أطفال الحضانات بين مصر وسوريا
في شهر إبريل 2011 نشر حسام حسن الطبيب بمستشفي جامعة الاسكندرية الرئيسي علي حسابه بتويتر وفيسبوك صورا قال إنها لأطفال حديثي الولادة مكدسين في حضانات مستشفي الشاطبي, وبعدها بساعاتنقلتها عنه بعض المدونات المصرية, ثم في نفس اليوم نشرها موقع البديل في موضوع عن تكدس الأطفال في الحضانات في بعض المستشفيات المصرية. وبعد ذلك بأيام بدأ الآلاف من مستخدمي الإنترنت في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي تداول إحدي هذه الصور دون ذكر لمصدرها علي أنها صورة لأطفال حديثي الولادة في حضانة أحد المستشفيات بمدينة حماة بسوريا لقوا حتفهم بعد أن قامت شبيحة الأسد بقطع التيار الكهربائي عن المستشفي.
وفي أغسطس من نفس العام بدأ انطلاق الأخبار عن موت أطفال الحضانات في سوريا يتسع حتي وصل بعض المواقع الإخبارية الغربية واسعة الانتشار علي الإنترنت, فنقل موقع النسخة العربية من قناة الـ سي إن إن عن رامي عبدالرحمن رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره لندن شهادات لعاملين فروا من مستشفي الحوراني بمدينة حماة عن أطفال ماتوا في حضانات المستشفي نتيجة لقطع التيار الكهربائي عنه علي أيدي شبيحة الأسد. ثم قام المرصد بنشر الخبر علي موقعه منقولا عن موقع سي إن إن. ولاقت هذه الصور والأخبار تعاطفا دوليا خاصة بعد منع النظام السوري للإعلام الدولي من تغطية مايحدث في سوريا, واستعاض عنه بلجان إليكترونية ومواقع وصفحات علي شبكة الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي تنشر مايراه النظام أنه الحقيقة.
وبالطبع هذا ليس إنكارا بأي حال من الأحوال لاحتمال وقوع مثل هذه الجرائم في سوريا, لكنه محاولة لفهم من ينقل عن من ومتي ولماذا؟ب.
مصر: صور قديمة في مهمة جديدة
نفس الطريقة استخدمت في العراق وليبيا وتستخدم بكثافة الآن في مصر, بعد عزل الرئيس مرسي وفض اعتصامي رابعة والنهضة. فقد ظهر علي مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك تحديدا) طوفان من الصوروالشائعات عما يحدث في مصر قام بنشرها أصحاب حسابات علي هذه المواقع يتابعها مئات الآلاف. هذه الحسابات يمتلكها إعلاميون في قنوات فضائية ومتحدثون سابقون ومؤيدون للنظام المعزول.
فنشر أحد هذه الحسابات صورة يقول إنها لمسيرة تضامن مع الرئيس المعزول في ديار بكر بتركيا, وعند البحث عن أصل الصورة باستخدام آلية البحث في الصور التي يوفرها جوجل اتضح أن الصورة ترجع إلي 2012 وأنها كانت لاحتفال بالمولد النبوي.
وصورة أخري نشرها أحد هذه الحسابات علي أنها صورة لأحد مؤيدي الرئيس المعزول وقد أشعلت فيه قوات الأمن النار, واتضح أيضا أنها صورة قديمة ترجع إلي 2008 لمواطن من جنوب أفريقيا.
وغيرها كثير من صور قديمة لتجمعات بشرية وصور لضحايا حوادث عنف في أماكن متفرقة من دول العالم وخاصة سوريا ونشرها علي أنها مسيرات للرئيس المعزول وضحايا من مؤيديه. كما قامت هذه الحسابات أيضا باستخدام برامج لتعديل صور لنجوم عالميين لإظهارهم وكأنهم يحملون لافتات تظهر تأييدهم للرئيس المعزول.
وبدراسة الجوانب المختلفة لعدد من هذه الصور, هناك بعض الملاحظات علي هذه الصور وعلي أنماط تفاعل المتلقي معها ومدي تأثره بها من خلال تعليقه عليها أو إعادة إرسالها إلي آخرين.
الملاحظة الأولي هي أن أصحاب هذه الحسابات يقومون باستخدام صور مجهولة تم نشرها علي مواقع غير مشهورة علي شبكة الإنترنت علي فرض أن ذلك يصعب علي المتلقي معرفة أصل هذه الصور,وهذا الافتراض يعكس جهلا بطبيعة الإنترنت والنضج والوعي الذي طرأ علي مستوي مستخدمي الشبكات الاجتماعية في مصر في العامين الماضيين. وقد ظهر ذلك في عدد الصفحات التي قام شباب بإنشائها علي فيسبوك تحديدا هدفها الأساسي البحث عن أصول هذه الصور ونشرها لتوعية الآخرين.
الملاحظة الثانية هي أن تأثر مستخدمي شبكات التواصل خارج مصر وخاصة من غير المصريين- بهذه الصور أكثر بكثير من تأثر المستخدمين لهذه الشبكات داخل مصر, وقد ظهر في عدد التعليقات علي هذه الصور من تعاطف وتكذيب وأحيانا سخرية, وفي عدد مرات إعادة الإرسال والتي تعني قبولا وتأييدا للرسالة المصاحبة للصورة.
الملاحظة الثالثة هي أن الاستخدام المتكرر لمثل هذه الصور يؤثر سلبا علي مصداقية أصحاب هذه الحسابات لدي فئة من المتلقين ليست كبيرة ولكنها ذات مغزي يلخصه تعليق علي إحدي هذه الصور نصه كيف أصدقك بعد ذلك؟! أنت غير موثوق, والدليل في الرابط. (بعنوان الصورة الأصلية علي شبكة الإنترنت), وغالبا ما يتجاهل من قام بنشر الصور الملفقة مثل هذه التعليقات.
فرضية المتلقي الجاهل:في الخارج والداخل
في يوليو الماضي كتب أحد المتحدثين باسم النظام المعزول في الخارج رسالة باللغة الإنجليزية علي حسابه في تويتر ترجمتها كما يلي عاجل: أنباء عن قيام طائرة هيلكوبتر تابعة للداخلية بفتح النار علي مسيرة مؤيدة للرئيس مرسي وهي في طريقها إلي الاعتصام في ميدان النهضة.وبعدها بقليل قامت صحفية أجنبية بكتابة رسالة علي حسابها بتويتر للمتحدث ترجمتها أين يحدث ذلك؟! أنا هناك ولا أري شيئا! وفي نفس الشهر قام نفس المتحدث بكتابة رسالة أخري ترجمتها قوات الأمن تهاجم المعتصمين في ميدان رابعة. وترد نفس الصحفية أين يحدث ذلك؟! أنا هناك ولا أري شيئا!. وتكرر نفس السيناريو وبنفس الطريقة, حتي أصبح المتحدث يعرف بين مجموعة من الصحفيين الأجانب بـ الكذاب, واختفت تقريبا أسماء متابعيه من أمريكا وأوروبا من قائمة من يقومون بإعادة إرسال مايقوم المتحدث بنشره علي حسابه من أخبار وصور وفيديوهات.
وفي نفس السياق نشر مذيع مشهور بإحدي القنوات الفضائية رسالة علي حسابه بموقع تويتر نصها نيويورك تايمز اليوم تقول إن ميزانية الجيش المصري 250 بليون دولار من جيوب الشعب... ولم يكن في موقع الصحيفة ما يمت بما جاء في هذه الرسالة من قريب أو من بعيد, وسأله بعض متابعيه عن رابط للخبر, ولم يرد.
وفي تركيا ظهرت عشرات الحسابات علي تويترالهدف منها إرسال صور لضحايا من سوريا لشبكات الأخبار العالمية والصحفيين العاملين فيها علي أنها صور لمجازر تعرض لها مؤيدو الرئيس المعزول في مصر.
الإعلام الغربي:الحقيقة بالعربية والإنجليزية
هناك في اللغة مجموعة من الكلمات والعبارات تعكس موقف من ينقل كلاما أو تصريحا أو أخبارا عن آخرين من صحة وحقيقة ما ينقله, مثل قد ربما لم يتم التأكد من صحة وغيرها كثير. وبعد مقارنة لنماذج من التغطية الإعلامية التي تقوم بها بعض المواقع الإخبارية الغربية, ظهر تباين كبير في استخدام هذه الكلمات والعبارات في النسخ العربية والنسخ الإنجليزية للأخبار التي تتعلق بالمنطقة العربية. ففي الوقت الذي تنشر فيه النسخة الإنجليزية من هذه المواقع خبرا أو تصريحا أو صورة أو فيديو نقلا عن آخرين مصحوبا بعبارة لم يتم التأكد من صحته, تأتي النسخة العربية من نفس ما نشر خالية تماما من هذه العبارة بما يعطي انطباعا لدي القارئ العربي- بأن ما يقرأه هو الحقيقة. حدث ذلك في تغطية سي إن إن و بي بي سي تحديدا للصراع في ليبيا وفي سوريا, ويحدث الآن بصورة واضحة ومتكررة في تغطية الأحداث في مصر.
عملية الصوت الصادق
في 2010 بدأ الجيش الأمريكي برنامجا دعائيا أطلق عليه اسم عملية الصوت الصادق الهدف منه تدمير الجهاز الدعائي لـ أعداء أمريكا علي شبكة الإنترنت ونشر وجهة نظر الإدارة الأمريكية والتأثير في الرأي العام بين مستخدمي الشبكة في المنتديات والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي خارج الولايات المتحدة, وخاصة في المنطقة العربية وباكستان وأفغانستان وإيران. وهذا البرنامج يقوم علي فكرةالإغراق المعلوماتي لخلق انطباع بوجود رأي عام مؤيد لوجهة النظر الأمريكية.هذه الفكرة يتم تنفيذها باستخدام برنامج صممته شركة إنتريبيد الأمريكيةمتخصص فيما يسمي بـ خدمة إدارة الشخصيات الافتراضية. هذا البرنامج يجعل من السهل إنشاء وتشغيل آلاف الحسابات المزيفة التي يمكن استخدامها في نشر آلاف التعليقات علي الأخبار والنقاشات وآلاف الرسائل علي شبكات التواصل الاجتماعي حول القضايا التي تهم الإدارة الأمريكية. وكل حساب من هذه الحسابات مزود بمعلومات شخصية مفصلة ومصصم بحيث تكون الرسائل التي ينشرها علي قدر كبير من الاتساق الفكري والثقافي بما يجعل من السهل علي من يراها التصديق بأن هذه الحسابات لأشخاص حقيقيين. وهذه الحسابات يمكنها نشر الرسائل أو التعليق بلغات لها أهميتها السياسية لدي الإدارة الأمريكية وهي العربية والأردية والفارسية والباشتو. وحسب ما صرح به المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش الأمريكي, لا تقوم هذه الحسابات بنشر أيه رسائل أو تعليقات باللغة الإنجليزية فذلك يخالف القوانين الأمريكية لأنه نوع من انتحال الشخصية. وهذه الحسابات تتم إدارتها من قاعدة ماكديل الجوية بولاية فلوريدا حيث مركز القيادة للعمليات الخاصة بالجيش الأمريكي.
ليبيا قبل سقوط القذافي
هذا البرنامج استخدمه الجيش الأمريكي لإدارة الرأي العام حول الصراع والوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان. وهناك مؤشرات يراها متخصصون دليلا علي استخدم البرنامج بصورة مكثفة في إدارة الصراع إلكترونيا- في ليبيا قبول سقوط نظام القذافي. هذه المؤشرات كالتالي: بالرغم من أن نسبة من يستخدمون الإنترنت في ليبيا لا تزيد علي 6% من عدد السكان, ونسبة من يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك تكاد لا تذكر, فقد ظهرت آلاف الحسابات علي مواقع التواصل الاجتماعي يقول أصحابها إنهم يعيشون في ليبيا, هذه الحسابات قامت بإرسال آلاف الرسائل تنادي بالتدخل العسكري لإنقاذ المدنيين من مذابح يقوم بها نظام القذافي.
هل أثر كل هذا في الرأي العام؟


والإجابة هي أن من تأثر بهذا كله وصدقه هو كل من قرر مسبقا أن مصلحته في أن يصدق وأن يستخدم كل ذلك مبررا للبدء في تنفيذ ما قد تم تجهيزه مقدما تحت غطاء من رأي عام زائف تم تصنيعه بسوء نية وتمريره من خلال قنوات أفراد ومؤسسات ذ القصد لدي آخرين.



المصدر الاهرام



تعليقات

المشاركات الشائعة