السيمفونية الحزينة!
بريد الجمعة يكتبه : احمد البرى
فى حياة الإنسان محطات كثيرة يتوقف فيها لالتقاط أنفاسه واستعادة تجاربه وذكرياته،
فى حياة الإنسان محطات كثيرة يتوقف فيها لالتقاط أنفاسه واستعادة تجاربه وذكرياته،
وها أنا أتوقف فى محطة تقترب من النهاية، وأكتب إليك عما عشته من تجربة مريرة عسى أن ينتفع قراؤك بدروسها، ويتجنبوا سلبياتها، فأنا رجل تجاوزت السابعة والسبعين من عمرى، وأقطن فى شقة بمنطقة راقية فيها كل مقومات الحياة المرفهة، ولقد نشأت فى أسرة ثرية ووسط اجتماعى راق وأنا وحيد أبوىّ، وتخرجت فى الجامعة وعملت محاسبا بجهة كبرى، وفيها تعرفت على فتاة أحببتها، وكانت تعمل سكرتيرة وحاصلة على الاعدادية، وأردت الزواج منها فرفض أهلى رفضا قاطعا، لكنى أصررت على الارتباط بها، وقلت لأبوى إنها ملكت مشاعرى، ولا أرى فرقا بيننا.. صحيح أننى أملك سيارة جديدة، ولدى الامكانيات المادية، والشقة الواسعة، وجميع الكماليات.. لكنها لن توفر لى الراحة والسعادة التى سوف أحياها مع من أحببتها وليس سواها، ولم يجدا مفرا من الرضوخ لرغبتى، بعد أن وجدا اننى لم أبال بتحذيراتهما من أن الفروق الكبيرة سوف تصنع حاجزا كبيرا بيننا بمرور الأيام، وكان يقينى أن حبنا المتبادل قادر على تخطى أى عقبات، وتجاوز أى مشكلات.
وأقبلت على حياتى معها بكل حب ورغبة فى أن نعيش معا فى سعادة إلى الأبد، وتنقلت فى العمل بجهات عديدة، حيث عملت بالسد العالى، ثم سافرت إلى الكويت والعراق، والتحقت بشركة إنجليزية قضيت عشر سنوات مديرا ماليا وإداريا لها، ثم استمررت عاما بأمريكا فى عمل مماثل، وأنجبنا ولدين، كرست لهما زوجتى حياتها وعلمناهما تعليما راقيا، وأحدهما طبيب وله عيادة خاصة، والآخر مدير كبير فى أحد الفنادق، وقد هاجرا إلى ألمانيا، وحققا هناك نجاحا باهرا، فاستقرت أحوالهما، وتمضى أمورهما على ما يرام، ونحن على صلة دائمة معهما.
وسارت حياتنا هادئة ومستقرة إلى أن بلغت سن المعاش، وعانيت فتورا فى علاقتى بزوجتى، فهناك أزمة تصيب كل الرجال يطلقون عليها «أزمة منتصف العمر»، حيث تتدنى قدرة الرجل الجسدية، ولا أقول تنهار، ويحتاج وقتها من زوجته إلى مزيد من الحب والحنان والرعاية، لكنى وجدت منها اهمالا شديدا، وتجاهلت هذا الجانب الذى طالما شكوت إليها منه، ولكن بلا جدوى، ووجدت ضالتى فى الأندية الاجتماعية التى أتردد عليها، حيث أجد الكثيرين من الرجال فى سنى، فنتبادل الحوارات والنقاشات، واكتشفت أن أكثر من تسعين فى المائة منهم يعانون المتاعب مع زوجاتهم ويكتمون همومهم النفسية داخلهم، حرصا على أسرهم، ولكيلا تتسرب الأقاويل عنهم فى سن الجلال والاحترام!
وفكرت كثيرا فى أمر زوجتى وموقفها الذى تغير فجأة بلا أسباب، وهى سيدة ملتزمة تعرف ربها، وقد حجت إلى بيته الحرام، وتؤدى الصلاة فى أوقاتها، وتصوم الاثنين والخميس، ولم أفلح فى أن أجد تفسيرا لموقفها المعاند لى، وقلت لها: إننى فى حاجة إليكِ، وقد أعطانى الله هذا الحق، وترتكبين بامتناعك عنى إثما كبيرا»، فلم تبال بى، ووافقت على أن تذهب معى إلى دار الافتاء لكى تعرف رأى الدين فى مشكلتنا، وبالفعل ذهبنا إليها، وقابلنا المفتى، وتصورت أنها سوف تلين الجانب أو أنها ستتراجع عن موقفها، ولكنها قالت أمامه فى إصرار «لا يلمسنى، وكفاية كده، ويروح يتجوز»! ولم أصدق نفسى، بل لقد مادت الأرض بى، وبينما أنا على حالى هذه وجه المفتى كلامه إلىّ وهو يصرخ فى وجهى «عاوز إيه تانى، بتقولك روح أتجوز»،
والله يا سيدى سمعت هذه الكلمات بهذا الوضوح وخرجنا من مكتبه، ولا أعرف كيف عدنا إلى المنزل، وظللت يومين فى حجرتى لا أغادرها، وتدبرت أمرى، وأصررت على أن أحايلها إلى آخر لحظة، فرجوتها أن تريحنى من هذه الناحية، فابتعدت عنى، وكررت جملتها الثابتة التى قالتها أمام المفتى «روح اتجوز». وكنا وقتها نقف فى شرفة المنزل ليلا، ووجهت وجهى إلى السماء، وقلت: يارب أنت أعلم بما بى.
وفى الصباح بلغ غضبى وانفعالى قمته، فجمعت بعض ملابسى فى حقيبة حملتها فى يدى وقصدت البنك، الذى أودع فيه مدخراتى وسحبت مبلغا كبيرا، وركبت سيارتى، وذهبت إلى الاسكندرية حيث وجدت ضالتى فى صاحبة البنسيون الذى أقمت به، فأفضيت إليها برغبتى فى الارتباط بها على أن أتردد عليها كل فترة، فقبلت بى، وأحضرت والدتها وخالها، وبعد عدة لقاءات متتالية تزوجتها عرفيا، وقضيت معها عدة أيام، ولما عدت إلى القاهرة سألتنى زوجتى: هل تزوجت؟ فرددت عليها: «نعم تزوجت، وأنت طلبت منى ذلك أمام المفتى، ولم تفلح محاولاتى معك فى أن أثنيك عن امتناعك عنى برغم علمك أنك تغضبين الله بصنيعك هذا، وتنتقصين حقا كفله الله لى، حتى لا أقع فى المعصية»، فعاودت كلامها «يعنى لما أقولك: نط من الشباك حتنط»؟.. ومنذ تلك اللحظة أساءت معاملتى تماما، ولم يقتصر عنادها على هذا الجانب وحده، فتحملتها إلى أقصى حد، وكنت كلما فاض بى الكيل أذهب إلى الاسكندرية، حيث أقضى مع زوجتى الثانية ثلاثة أو أربعة أيام، ثم أعود إلى منزلى بالقاهرة. وحاول إبنانا تهدئة الأمور بيننا، وطلبا من والدتهما أن تترفق بى، ونصحانى ألا أصطدم بها، أملا فى أن تستقر الأوضاع، وتخمد ثورة الخلافات التى أشعلتها، والتى كان بيدها ألا تثور أصلا بقليل من الحنان والرعاية، ولكن هيهات أن تتزحزح عن موقفها.
وبعد حوالى ستة أشهر افتعلت مشاجرة معى، وعلا صوتها علىّ، فآثرت السلامة، وتركت لها المنزل، قاصدا هذه المرة أختى التى تسكن فى الساحل الشمالى، وقضيت عندها أسبوعا، ثم عدت من جديد، وأنا أتطلع إلى أن تهدأ زوجتى، لكنى لم أجدها بالمنزل، فلقد غادرته وأخذت معها متعلقاتها، وأخذت أبحث عنها فى كل مكان، إلى أن عرفت أنها تعيش فى إحدى دور المسنين، فزرتها وتحدثت معها، وسلمت بالأمر الواقع، وأصبح ابنانا يعطيان لها ألفين وخمسمائة جنيه كل شهر، وأنا خمسمائة جنيه، وصرت وحيدا فى المنزل، وطلقت زوجتى الثانية التى تزوجتها عرفيا بعد عامين، فلم يكن ممكنا أن تسير الحياة بيننا على هذا النحو.
واستعنت بمن تعد لى الطعام، ومن تتولى تنظيف المنزل، ويتم استنزافى ماليا برضائى، أو بغير رضائى.. ولقد حاولت الزواج من سيدة تشاركنى وحدتى، لكن لم أجد من تناسبنى سواء من الناحية الاجتماعية، أو الظروف التى لا تتناسب معى، بالاضافة إلى شخصيتى وثقافتى، وتوقفت منذ ثلاثة عشر عاما عن البحث عن زوجة، وأحرص على زيارة زوجتى ورفيقة عمرى حتى الآن فى دار المسنين لأعطيها الخمسمائة جنيه، وفى كل مرة أسألها ألم يأن الأوان لكى تعودى معى إلى منزلنا نأتنس ببعضنا، ونكمل ما تبقى لنا من مشوار الحياة معا، فترد علىّ، «عشم إبليس فى الجنة».. إنها ليست مسرحية ياسيدى أرويها لك، وإنما هى سيمفونية حزينة عايشتها، وانتهى بى المطاف إلى وحدة موحشة، وحياة رتيبة مملة، وألم لا حدود له، ولا طاقة لأحد به.
لقد كان فضل الله علىّ عظيما، وأنا راض تمام الرضا بما قسمه الله لى من حياة فى هذه السن المتأخرة، ولا أنكر فضل زوجتى فى تربية ابنينا اللذين صارا ذوى شأن كبير فى ألمانيا، وقد بلغ الأكبر سن الحادية والخمسين، والثانى التاسعة والأربعين، لكن مرارتى تكمن فيما يفعله الانسان بنفسه، وهدمه سعادته بيديه بدون سبب.. فقط «حالة تحجر» فى المواقف ليس لها تفسير، وإنى أدعو كل زوجة أن تتعلم الدرس الكبير بأن تحافظ على بيتها، وأن تحتوى زوجها، وتكمل معه مشوار الحياة إلى النهاية، ولتعلم أن الرجل فى أزمة منتصف العمر يحتاج إلى الكثير من الحب والاحتواء، وأؤكد لك أنى عشت حياتى ملتزما فى كل الأمور، فلم أسرق أو أرتشى أو أظلم أحدا، أو أرتكب فعلا لا يقره الدين، كما اننى أصلى وأصوم، وأؤدى الزكاة، وهذا فضل من الله ونعمة، وربما يكون زواجى العرفى من السيدة التى طلقتها بعد عامين هو الخطوة التى لم أحسبها جيدا، وإن كنت لم أرتكب بها ما يخالف الشرع والدين، فلقد جرت علىّ متاعب كثيرة لم أدركها فى حينها، سواء من النواحى النفسية والمادية، وأرجو أن تكون قصتى عبرة وعظة لمن بلغوا أزمة منتصف العمر، والحمد لله رب العالمين.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
استوقفنى فى قصتك أمران مهمان يتعلقان بأزمة منتصف العمر، التى تصيب كثيرين من الرجال فى مراحل السن المتأخرة.
الأمر الأول: يتعلق بزوجتك التى لعبت الدور الرئيسى فى توسيع الفجوة بينكما، نتيجة إصرارها غير المبرر على عدم تلبية رغبتك فى تمكينك منها بعد أكثر من أربعين عاما من العلاقة الحميمة التى لم تعترضها أى مشكلات، ولم تذكر موقفا واحدا عاندتك فيه، بل كان الحب والحنان والمودة والرحمة هى السائدة بينكما، وقد تزوجتها منذ البداية على هذا الأساس رغما عن أهلك وأسرتك الذين رأوا أن هناك فوارق اجتماعية وثقافية بينكما تحول دون قيام زيجة ناجحة، لكن هذه الفوارق لم تظهر طوال السنين الى أن تعديت سن الستين، والحقيقة أننى لا أرى أى علاقة للفوارق الاجتماعية والثقافية فى موقفها منك، وكان الأولى بها ألا تصل بالأزمة التى تسببت فيها بمنعها نفسها عنك الى هذا الحد، فلقد كان بإمكانها أن تستجيب لك، وأن تحتفظ بعلاقة موصولة معك من الناحية الجسدية، فأنت زوجها، ولم تنفر منك من قبل، فما الذى جعلها ترفض علاقتك بها بعد كل ذلك، لدرجة أنها قالت للمفتى انها توافق على أن تتزوج بأخرى ترضيك من هذا الجانب؟
والأمر الآخر: هو أنك لم تلجأ الى الزواج الثانى رسميا، وانما لجأت إليه عرفيا، ربما من باب الحفاظ على صورتكما الاجتماعية أمام الناس، وحاولت أن تبنى جسورا من التواصل مع صاحبة البنسيون الذى تقيم فيه خلال زيارتك الى الاسكندرية، بعد أن وجدت ضالتك فيها، بنية أن تكون هى ملاذك وقت حاجتك الجسدية، بينما رأت هى فيك مصدرا للمال، فراحت تستنزفك بعلم والدتها وخالها، مقابل أن تقضى معها عدة أيام كل شهر، أى أن نيتك فى الارتباط بها لم تكن زواجا مستقرا مثل كل الزيجات، وانما اتخذتها وسيلة لتفريغ شحنتك الجسدية، وتعويضا عن زوجتك التى رفضت أن تلمسها أو تقترب منها، ولقد كان طبيعيا والحال كذلك ألا يستمر هذا الزواج، إذ لم يكن باستطاعتك تلبية طلباتها المادية المغالى فيها، وبالتالى انصرفت عنك، ووجدت نفسك مضطرا لتطليقها، بل والندم على التفكير فى الزواج بها من الأساس.
وفاتك أن الحل الأمثل كان هو الزواج الرسمى من زوجة ثانية تشاركك حياتك وتمنحك ما رفضت زوجتك الأولى اعطاءه لك، وهو الزواج الذى أحله الله سبحانه وتعالى بإباحة تعدد الزوجات لمن يعيش ظروفا مماثلة لظروفك بشرط أن يعدل بين زوجاته، وحتى لا ينزلق الى الخطيئة وارتكاب المعصية.
ولقد توقفت أمام الموقف الغريب لزوجتك التى فضلت أن تتزوج عليها على أن تمكنك من نفسها، ولم أجد له تفسيرا، فهى تحبك، وعاشت معك سنوات عمرها سعيدة بك، فما الذى غيرها تجاهك فجأة، فالمعروف أن القدرة الجنسية لدى الرجل عضوية فسيولوجية، وهى التى تحدد مدى استطاعته ممارسة الجنس، وقد يكون من هو فى مثل عمرك الآن، قادر على إقامة علاقة زوجية ناجحة، أما المرأة فالمسألة ترتبط لديها بالجانب النفسى أكثر من الجانب الوظيفي، ولا تتوقف قدرتها فى هذا الشأن على انقطاع الدورة الشهرية، أو ما يسميه البعض «سن اليأس»، وفى هذا الصدد استرعى انتباهى خبر طيرته وكالات الأنباء أخيرا عن سيدة أوروبية عمرها مائة وسبعة أعوام وتفكر فى الزواج من شخص مناسب لها لحاجتها الجسدية إليه.
إذن ليست هناك سن محددة تتوقف عندها الرغبة الجنسية النفسية، ولكننا قلما نجد فى مجتمعاتنا الشرقية امرأة متصالحة نفسيا وجسديا، مع رغبات واحتياجات جسدها، فموضوع الجنس من التابوهات الممنوع الاقتراب منها، وحتى من هى فى مثل حال زوجتك تكبت مشاعرها، وتعتبر أن وصولها الى سن متقدمة لا يصح معه أن تمارس هذه العلاقة!
وعلى جانب آخر كان بإمكانك رأب الصدع الذى أصاب حياتك الزوجية بالارتباط رسميا من أخري، وأرصد هنا دراسة بريطانية أجراها العالمان «فراين البرج» و«براون سميث» حول الزواج الثانى للرجل بالرغم من أنه ليس معروفا فى الغرب، وشملت الدراسة سبعمائة حالة، وتبين منها أن الزوجة الأولى يزيد اشتياقها لزوجها، وتتجدد علاقتها به عندما يرتبط زوجها رسميا بأخرى، إذ تحس وقتها أن هناك أخرى سوف تأخذه منها، فيزيد ارتباطها به، لكن إقدامك على زواج عرفى لجأت إليه بعيدا عن عيون الآخرين، كان هو الخطوة غير المحسوبة.. ولذلك لم يستمر طويلا.. ولم يكن ممكنا أن تتزوج من ثالثة زواجا مستقرا، والحقيقة أنك مازلت تحب زوجتك الأولى برغم هذه السن المتقدمة، وانى أرجوها أن تعيد النظر فى اقامتها بدار المسنين، وأن تعود الى منزلك، فلم يتبق من العمر إلا القليل، ولقد أمضيت سنوات طويلة وحدك، وهى الأخرى تفتقد الدفء الأسري، الذى لا يتوافر فى أى مكان سوى البيت وسط الأهل والأحباب، ويكفيها إلحاحك عليها لكى تنسى الماضى بكل ما فيه، فما تتعشمه فيها ليس «عشم إبليس فى الجنة» كما تقول لك، وإنما أنت تريد طى صفحة الوحدة الموحشة والقاتلة، وتعودان الى سابق عهدكما معا، وتتواصلان مع ابنيكما، ويا حبذا لو سافرتما فى زيارة إليهما تجددان فيها الحياة، وتطمئن نفساكما، فيسرى الدم من جديد فى شرايين علاقتكما التى لم يصبها الوهن ولا الضعف، بدليل زياراتك الشهرية لكى تعطيها مبلغ «الخمسمائة جنيه» وهى زيارات أراها جسرا للتواصل بينكما، واطمئنان كل منكما على الآخر وليس لإعطائها هذا المبلغ فى حد ذاته، وإلا أرسلته لها مع أى مندوب.
أسأل الله أن يقرب قلبيكما من بعضهما، وأن يلين موقف زوجتك، فتعود سفينة الحياة للإبحار بكما من جديد، والله المستعان.
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق