من المكتبة الإسلامية:الإسلام والدولة المدنية..بين المجددين وتجار الدين

إحلال النظر العقلي القائم على الاجتهاد محل النظر النقلي القائم على التقليد يسهم في النهوض بالمجتمع الإسلامي .
تأتي أهمية كتاب «الإسلام والدولة المدنية» للراحل الدكتور عبدالمعطي بيومي، عميد كلية أصول الدين الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، والذي تحل علينا قريبا الذكرى الثانية لوفاته بعد ان رحل في صمت عن عالمنا في صيف 2012 عن عمر يناهز 72 عامًا، لتضع حدا فاصلا للجدل الدائر حول مفاهيم الدولة المدنية والدينية في الإسلام ومرجعيتها.
والكتاب الصادر عن «دار الهلال» يتهم الفرق الإسلامية المعاصرة بضيق النظر في تطبيق هذا المذهب الفقهي أو ذاك، أو فقه هذه الفرقة أو تلك، تجاه مفهوم ومرجعية الدولة المدنية، ويرى أن تلك المحاولات تقوم على التحيز والانحصار في دائرة المذهبية الضيقة، أو الطائفية المذمومة، بعيدا عن منظور الشريعة في شمولها ونقائها الأصيل، فالإسلام كل لا يتجزأ ولا يتبعض منظوره، أو ينحصر في تأويل بعينه لهذه الفرقة أو المذهب أو التيار، وإنما هو فوق ذلك كله، وسابق على التأويلات والتفسيرات والاختلافات، فضلا عن الانقسامات والصراعات.
ويري الراحل الدكتور عبد المعطي - في كتابه - أن الأصل الإسلامي يكمن في التعددية وحق الاختلاف والمجادلة بالتي هي أحسن، مستشهدا على ذلك بالآيات الكريمة: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة»، «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا»، و«لا إكراه في الدين» وضرورة المجادلة بالتي هي أحسن، وما يتصل بذلك من معنى المعارضة التي لا يقصد بها العداوة، أو الخصومة، أو المخالفة بقصد المخالفة، أو استئصال الآخر المختلف معنويا أو ماديا، وإنما الاجتهاد والاختلاف الذي هو رحمة تقود إلي إمكان تقديم حلول متعددة بما يفيد المجتمع. كما ينفي الكتاب عن الإسلام الدلالة السلبية للحاكمية من حيث انقلابها إلى نوع من الحق الإلهي الذى يأخذه من يدعيه، أو يغتصبه، فالحاكمية لله تعنى الحكم بما أنزل الله، وذلك بما يقيم العدل بين الناس، ويؤكد المساواة بينهم، ويحررهم من شروط الضرورة، دون تمييز بينهم على أساس من جنس أو لون أو أصل أو فئة أو دين، فالمساواة أصل في المواطنة التي يقرها الإسلام، ويؤكد ما تنطوي عليه من إخاء وتسامح واشتراك عادل في الحقوق والواجبات. ويوضح الكتاب الموقف من الأقليات، مؤكدا أن الأصل الأصيل للإسلام يسع الجميع برحمته، فلا يجوز تشريع أي قانون في أي مجال من مجالات الحياة وأنشطتها يضر بغير المسلمين في مصالحهم، أو يؤذيهم في عقائدهم أو مشاعرهم، ولابد من إسهام الجميع فيها بلا تمييز، وبما يحقق تقدم الأمة الذي لا يتحقق إلا بشعور الجميع بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات.
كما يحذر الكتاب من فكرة المستبد العادل التي نقلها الإمام محمد عبده عن جمال الدين الأفغاني، وذلك بالرفض المطلق لطبائع الاستبداد مهما تكن صورها أو مبرراتها، مرتكزا في ذلك إلى الصفة المدنية لحكم الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذى أمر المؤمنين بمخالفته في الأمور البشرية التي قد يخطئ فيها.
كما بين الكتاب مفهوم العقد الاجتماعي الذى تقوم عليه الدولة المدنية الحديثة ومفهوم العقد الديني الذي ينطوي على المبدأ القائل بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مخالفا بذلك التيار السلفي الذى كان يمنع الخروج على الحاكم.
كما يطالب الكتاب بإحلال النظر العقلي القائم على الاجتهاد محل النظر النقلي القائم على التقليد، قاصدا بذلك الإسهام في النهوض بالمجتمع الإسلامي، ودعم تياراته العقلانية الليبرالية التي هي الإطار المرجعي لمفهومه عن الدولة المدنية. والصراع الدائر الآن بين أنصار الدولة المدنية، والدولة الدينية يرد عليه الدكتور عبدالمعطي بيومي، بالقول: ليس في الإسلام سلطة دينية، ولا دولة دينية، دولة الإسلام دولة مدنية لها إطار أخلاقي قيمي ديني، لكنها من الداخل تعمل العقل والاجتهاد، وتعطى للخبرة الإنسانية مجالا واسعا جدا، كما تقوم الدولة المدنية على أسس رئيسية هي أن الأمة مصدر السلطة، وعلى فصل السلطات الثلاث وعلى عقيدة تشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أما الدولة الدينية التي ظلت تحكم العالم في الحضارات القديمة فكانت تقوم على الحق الإلهي في الحكم لبشر معينين. ويرى الكاتب أن الإسلام لم يضع شكلا محددا للنظام السياسي، لكنه وضع له أربع ركائز أساسية يقوم عليها النظام الأساسي في الإسلام تبدأ بالمساواة تليها الحرية، ثم العدالة، ثم الشورى، وهذه ركائز الإسلام إذا طبقت يكون الحكم إسلاميا، سواء كان جمهوريا أو ملكيا، وإذا أغفلت ركيزة أو اثنتان وحتى لو أقمت نظام خلافة وسميت نفسك أمير المؤمنين، لا يصبح نظاما إسلاميا، أما إذا عملت بها فهذا نظام إسلامي، فالشريعة الإسلامية في غاية المرونة، وقابلة للتطبيق ما لم تبح ما حرم بنص.
وإذا كان دعاة الدولة المدنية وكثير من التيارات الإسلامية يرتكنون إلى مبدأ الحاكمية وفقا لاجتهاد فقهي في قول الله تعالي: «إن الحكم إلا لله» فان الدكتور بيومي يرى في كتابه أن القول بأنه لا حكم إلا لله، يعنى الاستدلال بهدايات الشريعة الإسلامية، وان نضع لأنفسنا النظام الذي يحقق المساواة والحرية والعدالة والشورى، لذلك فان حكومات الغرب ليست مسلمة، لكنها حكومات إسلامية، وهذا ما قاله الشيخ محمد عبده، فهناك المساواة والشورى والعدالة وحقوق الإنسان والحريات.
ويسعي الكتاب إلى البرهنة علي أن الدولة الإسلامية دولة مدنية تلتمس في صورتها الأصيلة الأولى للإسلام، في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأن هذه الدولة بناها الرسول على الديمقراطية التي أنتجتها الشورى الأصيلة، تلك التي لا تقل في قيمتها وضمانها للحريات وحقوق الإنسان عن أي دولة حديثة معاصرة، بل هي بتراثها أصل للديمقراطيات الحديثة.

المصدر الأهرام


تعليقات

المشاركات الشائعة