دائما نحاول أن نحيا.. ولنا شرف المحاولة!
يلتقى بمن ينطاحون زماتهم : توماس جورجيسيان
انها جرأة القرار وضرورة الاختيار وأيضا عدم الاستسلام لليأس. ولهذا يختار المرء ويقرر ويناطح زمانه ومكانه، بل عليه أن يختار وأن يقرر وأن يناطح ويقاوم اليأس والاستسلام خصوصا عندما تختلط الأوراق حوله وتتضارب المشاعر بداخله وتتقلب المواقف وتتخبط المعاني. الفنانة المكسيكية الفريدة فريدا كاهلو قالت يوما:» أنا لا أرسم أحلاما أو كوابيسا.. أنا أرسم واقعي « وهي التي قالت أيضا وهي تناطح زمانها ومكانها «أنا أرسم الزهور لكي لا تموت».. ثم «لماذا أنا في حاجة الي القدمين .. اذا كان لي جناحان كى أطير؟».
.................
ولاشك أن مع اقتراب العام المنصرم من نهايته تتعالى الأصوات من حولى كالعادة وتنبه ـ أى عام جديد مقبل نتحدث عنه ثم نتطلع اليه ونأمل فيه ونحن نجد أمامنا هذه الأيام مشاهد ما يحدث في العالم، كما أن العام المنصرم نفسه يدفع الينا من جديد وبشكل أكثر الحاحا كل القضايا التي لم نحسم مصيرها الى هذه اللحظة وكل الأسئلة التي لم نجاوبها بعد .. وهي بالمناسبة صارت أكثر صعوبة وأكثر تعقيدا. وكما يبدو لا مفر لنا أبدا من مواجهتها والتعامل معها. ولمن لا يلاحظ ما يأتي به دائما العام الجديد هو هذا الالحاح و»الزن عالودان» بأن «لسه الأغاني ممكنة» وبأن «لسه الأحلام ممكنة». ولا يمكن ذكر الأغاني دون الالتفات الى رحيل المطربة العظيمة صباح وكيف أننا اكتشفنا من جديد خلال الأيام الماضية أن أغنياتها وأفلامها وطلتها وبهجتها كانت لها دور في تشكيل حياتنا وتجميل زماننا وانها ظلت في وجداننا رغم مرور السنين وتتابع الأجيال. والأمر الأكثر اعجابا وابهارا أن جنازتها وفقا لطلبها صارت غناءا ورقصا وفرحة ودموعا معا.. واذا كنا هكذا نحتفي بالأموات فكيف يجب أن نحتفي بالأحياء!!
والأيام القليلة الماضية شهدت مع الأسف أكثر من رحيل لمبدعين وأصحاب قلم وموقف أضافوا بحياتهم الكثير لحياتنا ونظرتنا للدنيا ولأنفسنا. منهم نذكر محمد ناجي وسعيد عقل ومنذ أيام جاء رحيل رضوى عاشور الروائية والشخصية الأدبية والأكاديمية التى تركت بصماتها ليس فقط بكتاباتها بل أيضا بمواقفها ـ في مناطحة زماننا وأصحاب السلطة والقرار وأخيرا في مواجعة مرضها اللعين والخبيث. رضوى عاشور وهى تخوض تجربتها مع المرض واندلاع الثورة في مصر كتبت «أثقل من رضوى» ـ مقاطع من سيرةذاتية . وقد أتمت كتابتها في التاسع من مايو ٢٠١٣وفيها تصف حياتها وفلسفتها كامراة «ما ان تجد الشارع خاليا نسبيا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة توصيله الى أبعد نقطة ممكنة .. تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف الا حين تنتبه أن أحد المارة يحدق فيها باندهاش».وكيف أن حين يراودها اليأس أو حين تسعى ل»ترويض» اليأس أو «الاطاحة به» تقول لنفسها كما تذكر في نهاية الكتاب: « لا يصح ولا يجوز لأنني من حزب النمل. من حزب قشة الغريق، أتشبث بها ولا أفلتها أبدا من يدي. من حزب الشاطرة التي تغزل برجل حمارة» ثم تقول:» لماذا لا أقول اننا، كلأسرتنا، لا أعني أنا ومريد وتميم وحدنا، بل تلك العائلة الممتدة من الشغيلة والثوار والحالمين والذين يناطحون زمانهم، من حزب العناد، نمقت الهزيمة. لا نقبل بها.فان قضت علينا،نموت كالشجر واقفين،ننجز أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة وخبرات ثمينة، تركة نخلفها بحرص الى القادمين. عزيزيالقارئ وعزيزتي القارئة، أستدرك لأنهي حديثي بالسطر التالي: هناك احتمال آخر تتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا». انتهت حياة رضوى وبالطبع لم تنته كلماتها وأيضا مناطحتنا لتحديات حياتنا.
ومناطحة الزمان تعني بالتأكيد مناطحة المفاهيم والمعتقدات والأفكار السائدة. وهنا يلفت نظرنا اهتمام الأوساط الأدبية الأمريكية بالكتاب الفائز بجائزة الكتاب الوطني المرموقة للعمل الابداعي وهو أول كتاب لمؤلفه الشاب ـ العائد من العراق. اسم الكتاب Redeployment ويعني»اعادة نشر القوات .. أو العودة الى ساحة الحرب» أما المؤلف فاسمه فيل كلاى ويبلغ من العمر ٣١ عاما وهو كان من المارينز (مشاة البحرية) الذين ذهبوا الى العراق عام ٢٠٠٧. والكتاب مجموعة قصصية مكتوبة بصيغة المتكلم الذي يحكي تجربته مع الحرب أو بعدها. وهو المناسبة أكثر من شخص في أكثر من موقف. والمؤلف يقول عن تجربته: «لقد ذهبت الى العراق ثم عدت. ثم بالتأكيد هذا ما كتبت عنه.. هذا هو الشئ الذي كنت أحاول أن أجد معنى له.. ماذا كان بالنسبة لي وماذا كان بالنسبة للآخرين في حياتي؟» الا أنه بدلا من أن يكتب مذكرات كتب قصة قصيرة من وجهة نظر أحد مشاة البحرية (المارينز) عاد للتو الى بيته في نورث كارولينا بعد أن أمضى فترة في العراق. كلاى الذي ترك المارينز عام ٢٠٠٩ احتاج الى أربع سنوات لكي ينتهي من كتابة قصص الكتاب.لقد عاد من العراق حسب وصفه «وهو لا يعرف كيف يمكنه أن يفكر حول الكثير من الأمور ..وكيف يمكن أن يرد على تلميذ في المدرسة المتوسطة يسأل عن ما اذا كنت قد قتلت شخصا.. وقد يصاب بخيبة أمل اذا قلت له لا؟ وعندما يقابلك أشخاص لا تعرفهم في البار فيصممون على أن يعاملونك كشخص مدمر نفسيا فقط لأنك عائد من الحرب؟» ثم يضيف:» بالفعل لم تكن لدى أجوبة لكل تلك الأسئلة الا أن الكتاب كان الوسيلة الوحيدة التي أعرفها لكى أبدأ التفكير والنظر في كل هذه الأمور وأنالكتابة وسيلة أو طريقة لبدء حوار» وفي رأيه أيضا:»لا أعتقد بأن هناك حوار أهم يمكن طرحه من هذا الحوار حول الحرب.. فالحرب أمر غير مألوف جدا ولا يمكن تناوله بمفردك». والاهتمام بالكتاب والكاتب ليس سببه العراق والحرب بقدر ما هو قدرة المؤلف الشاب على الحكي والسرد والتجارب الانسانية التي التقطها وكتبها بقلمه المبدع عن مآسي الحرب وأهوالها وحيرة الانسان وحزنه وغضبه معها.
ولا شك أن اللجوء الى الكاتب حسين أحمد أمين وكتاباته الممتعة والغنية بالأفكار والمواقف لهو أمر حيوي في مثل هذه الأيام. خاصة أننا في مناطحة مستمرة مع زماننا والبشر من حولنا بأفكارهم ومواقفهم و»فوضى تخلفهم» و»احتقارهم للحياة» وقد ذكر في احدى كتاباته مستشهدا بحكمة لقدماء العرب: «من لم يعرف غير لغته لم يعرف لغته، ومن لم يعرف غير دينه لم يعرف دينه، ومن لم يعرف غير وطنه لم يعرف وطنه». وحسين أحمد أمين وهو يتناول موقف عباس محمود العقاد من التراث كتب :».. الاقبال على التراث لا ينبغي أن يكون الهدف منه الهروب من حاضر ثقيل الوطأة، أو الترويح عن النفس أو التفرج على أطلال عصور الخوالي، وانما هو الاستفادة من حكمة الأقدمين وتجارب الأسلاف في أن نجعل من عالمنا المعاصر عالما أفضل، وأن نهيئ لأنفسنا وأبنائنا مستقبلا أزهى، لا نحترم الماضي لمجرد أنه ماض، ولا السلف لأنهم سلف، ولا نقصر الحق في التفكير على الأموات.. أما الاقبال على الثمار الفكرية للحضارات الأخرى فلا ينبغي أن تحكمه عقدة نقص أو استكبار أو فقدان الثقة بالنفس والدين والتقاليد، مع ضرورة الاقرار بأن الاستفادة من معاصرة غيرنا ممكنة على نحو استفادة أوروبا من معاصرة العرب، ابان العصر الوسيط في تجاوزها لواقعها الى عصر النهضة فعصر الاصلاح الديني..»
وحينما تناول أصول الاتفاق والاختلاف في مجتمعاتنا العربية قال حسين أحمد أمين: «.. استقر في المجتمعات المتحضرة منذ أمد بعيد مفهوم يرى المفكر ومخالفيه في الرأى من نقاده شركاء في مهمة واحدة، هى توسيع مدارك أفراد الجمهور وفهمهم، وتنمية معارفهم، وتمكينهم من تكوين نظرة سليمة للأمور. والمفكر في تلك المجتمعات يدرك عادة ما لم يكن مفرط الحساسية، أن عليه أن يكون شديد الامتنان للمساعدة التي يقدمها مخالفوه له بتنبيههم اياه الى أخطاء وقع فيها، أو وهم انزلق اليه، أو أوجه قصور تعتور فكره.. كذلك يدرك الناقد أن الاسفاف والحقد الشخصي والافتقار الى الموضوعية في مجالي الثقافة والفكر، أمور كفيلة بهدم سمعته هو لا سمعة موضوع النقد. أما في عالمنا العربي فان القاعدة التي لا يستثنى منها غير القليلين هى، للأسف، أن الناقد المادح مأجور، والناقد القادح مسعور، فما المدح الناجم عن اعتراف بفضل جاء، أو توقع لفضل قد يجئ، فأمره يسير الغرم. وأما القدح المسعور، والسباب غير المأجور، والتشنج ازاء الفكرة الجديدة، والمبادرة الى تكفير القولة الجريئة، والاتهام بفساد العقيدة، والانتقال من تسفيه الفكرة الى الطعن الشخصي بأسلوب يفيض بذاءة وينضح بالحقد والكراهية دون مبرر ظاهر غير اخنلاف الرأي، فأمر يتعذر فهمه الا على ضوء طبيعة تكويننا، وفساد في أسلوب تربيتنا، وأفقنا المحدود، وحظنا المنكود». هكذا جاء توصيف الحالة أو تشخيصها قبل أكثر من عشر سنوات. ولكن هل تغيرت الأوضاع أو تحسنت عما كانت أم انها تدهورت وازدادت سوءا خاصة أن الكل ينتقد الكل والأخطر يتظاهر ويتباهى ويتعالى بقيمه ومبادئه ومواقفه و»بضميره».. مادحا كان أم قادحا، مأجورا كان أم مسعورا.
.................
وطالما عزيزي القارئ قررت واخترت أن تحيا وألا تكف عن محاولاتك الدائمة والمستمرة في أن تحيا بكل ما تحمله هذه الكلمة «الحياة» من معان فأنت بلا شك أفضل من يعرف حياتك وأحلامك وأيضا أحزانك وأفراحك. وأنت خير من يعرف أغنيتك المعبرة عن تلك الأحلام والأحزان ـ فأنت تعرف كلماتها وتعرف أيضا لحنها. وبالتأكيد أنت، نعم أنت، أفضل من يعرف كيف يغني هذه الأغنية. وبالطبع هذا حقك بل وواجبك أيضا وبالتالي غن أغنيتك .. والأمر الأهم لا تدع الأخر يغني أغنيتك.. اذ قد لا يقوم بغناء كل الكلمات أو قد يغير بعض الكلمات أو يشوهها أو يبدل اللحن و»يبهدلها». فتضيع منك أغنيتك الخاصة بك.وتذهب معها أحلامك .. وأيضا أحزانك وأفراحك. في كل الأحوال لا تيأس وغن دائما..
المصدر الاهرام
- الحصول على الرابط
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق