مستشفيات الحكومة "مقبرة الفقراء".. وتصريحات تطوير العيادات "كلام مدهون بزبدة".. و4.9% فقط من الموازنة تنفق على القطاع.. والمرضى يعانون.. والمسئولون "محلك سر"


تطوير المنظومة الصحية فى مصر وتحسين أحوال المرضى داخل المستشفيات الحكومية.. تلك هى التعهدات التى تأتى فى مقدمة التصريحات للحكومات الجديدة عند بداية عملها، والتى يعقبها زيارات ميدانية لعدد من المستشفيات من قبل المسؤولين، يتخللها تصريحات وردية ووعود وقرارات خصم لبعض المتخاذلين، ليتحقق بعدها تحسن جزئى فى أحوال تلك المستشفيات التى سرعان ما تعود إلى أحوالها الأولى، وهو ما حدث فعليا خلال زيارات إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، والدكتور عادل عدوى، وزير الصحة، من خلال زياراته التى يقوم بها فى عدد من المستشفيات.



الأرقام والإحصائيات المعلنة تؤكد تردى المنظومة الصحية فى مصر، حيث تكشف أن مصر مصنفة كإحدى الدول الأقل إنفاقا على القطاع الصحى حيث يقتصر نصيبها فى موازنة «2011 - 2012» «2012 - 2013» «2013 - 2014» على %4.9»، رغم أن المعدل الدولى الذى تم إقراره فى قمة الألفية بالأمم المتحدة هو %15، وقد أقرتها قمة أبوجا التى وقعت عليها مصر عام 2001، وتأتى بعد دول مثل أفغانستان التى تنفق 6.7 والعراق 8.4 وحتى بورندى %11.7، وهذه النسبة تعكس مدى تردى المنظومة الصحية بمصر، خاصة إذا ما توافقت مع تصريحات وزير الصحة منذ أيام قليلة التى كشف فيها أن 4 مستشفيات حاصلة على معايير الجودة بينها مستشفى حكومى

◄◄«إمبابة العام»/ لا نظافة ولا نظام ولا أطباء ولا دواء.. لا شىء إلا انتظار الموت بالمستشفى.. وممرضة: «الغلابة فى البلد ديه ملهمش مكان»

كان من الواضح خلال جولة «اليوم السابع» فى عدد من المستشفيات أن العاملين هناك، خصوصا على الأبواب الرئيسية، لا يهتمون إلا بثمن التذكرة لتتجول بداخلها كما شئت، ولم يكن حال مستشفى إمبابة العام يختلف عن المستشفيات السابقة، فبمجرد أن تطأ قدماك أرض المستشفى وتتجاوز الباب الرئيسى الذى كان خاويا بعد تجاوز البوابة بخطوات قليلة، ومرور عدد من أهالى المرضى على وجوههم الغضب من معاملة الأطباء لذويهم، وضعف إمكانيات المستشفى، كانت هناك منضدة صغيرة جلس عليها شخص خمسينى العمر يتبادل الحديث مع سيدة أربعينية تتخلله ضحكات عالية، لم يكلف نفسه بالسؤال عن الحضور رغم ملاحظته أننا أصحاء، كان كل ما يحرص عليه هو تحصيل ثمن التذكرة، ليعاود الحديث مرة أخرى مع السيدة.
سألناه عن وجود غرف المرضى، فلم يكلف نفسه عناء الرد، وقام بالإشارة دون أن ينظر لنا ناحية اليمين، وعبر سلم مظلم تم الصعود إلى ممر طويل ساكن لم يقطعه إلا صوت فتاة لا تتجاوز العشرين وهى تتحدث مع رجل أربعينى العمر، والذى التفت إلينا قائلا: «عاوزين حاجة بدوروا على إيه»، فسألناه عن أماكن وجود المرضى، معتقدين أنه أحد العمال بالمستشفى، قال: «امشوا كده شوية»، وهو الأمر الذى احتجت عليه الفتاة قائلة: «حرام عليك بطل هزار.. يا جماعة ده مش شغال هنا»، تركناهما، وفى رأسنا سؤال واحد إذا كان هذا ما يحدث معنا ونحن أصحاء لنا قدرة على التجول داخل المستشفى فما حال المرضى أو أهاليهم؟
عبر نصف ساعة كاملة قمنا بالبحث فى المستشفى صعودا وهبوطا عن مكان المرضى، ولم نصادف سوى ممرات خالية معتمة لا تقطعها سوى أصوات القطط وهى تلهو بحرية تامة، وأخيرا وصل إلى آذاننا صوت أغان شعبية أو ما يطلق علية «أغانى المهرجانات» تخرج من إحدى الغرف، التى تبين أنها غرفة العناية المركزة، ورأيناها مفتوحة على مصراعيها بخلاف كل غرف العناية المركزة التى تحرص كل المستشفيات حتى التى تعانى من الإهمال على غلقها ومنع الدخول إليها، ووجدنا الغرفة تضم أربعة أسرة وتحتوى على جهاز تنفس وحيد.
وعلى اليمين كان مكتب الممرضات به ممرضة واحدة فى حالة نوم عميق، وهو ما أفزعنا لسبب بسيط أنه من الممكن أن تتدهور حالة أى مريض دون أن يجد من يعينه أو يأخذ بيده.
حاولنا كتم غيظنا والحديث إلى الممرضة النائمة بصعوبة بسبب ارتفاع صوت المسجل، والغريب أنها بعد استيقاظها لم تندهش من وجودنا فى قلب الغرفة، وانتظرت حتى قمنا بسؤالها عن أحوال المستشفى، وما هى النواقص التى يعانى منها، فقالت بصعوبة وهى تحاول الإفاقة: «معلهش يا جماعة الواحد بياخد وقت عقبال لما يصحى من النوم».



وقالت الممرضة: «المستشفى يعانى من نقص شديد فى الأدوية والاحتياجات اللازمة لمرضى العناية المركزة، وهو الأمر الذى يضطر معه أهالى المرضى إلى شرائها من الخارج، مؤكدة أن أغلب المرضى لا يستطيعون ذلك، فيضطرون إلى الانتظار لحين توافرها فى المستشفى». وأضافت: «تخيلوا يا جماعة ست كبيرة فى السن اتوفت فى العناية بسبب احتياجها لبعض الأدوية التى كانت غير متوافرة»، ولم يكن هناك من يسأل عنها، أو يتابع حالتها ومدى توفر العلاج، ثم استطردت سريعا «بس هى كانت حالتها خطرة»، مؤكدة: «صدقونى الغلابة فى البلد ديه ملهمش مكان يتعالجوا فيه».
بالقرب من غرفة العناية كانت هناك فتاة صغيرة تبكى فى صمت شديد وتنظر إلى السماء عبر نافذة المستشفى الضيقة، اقتربنا منها محاولين سؤالها عن سبب بكائها، رفضت الحديث، وأوضحت إحدى الممرضات أن والدتها تعانى آلاما شديدة وتحتاج إلى أدوية عاجلة ولا تملك النقود لتوفيرها، وهو ما سبب لها مضاعفات شديدة.. وأمام تلك الحالة كان من الطبيعى ألا نقتصر على نقل معاناتها فى سطور وكلمات فقط، فهى لا تحتاج لذلك، فالألم الذى تشعر به لن يسمح لها بالقراءة، وبالفعل استطعنا تدبير الدواء عن طريق أحد المتطوعين، ولكن كم مريض يتألم فى المستشفيات فى صمت بسبب عدم مقدرته على توفير ثمن الدواء؟

◄◄«معهد القلب»/ «ذبحة الناس الغلابة».. حينما يكون الموت رحمة.. البودى جاردات يشهرون الأسلحة بوجه الأهالى.. ومريض: «إحنا ملناش ضهر»
يأتون إليه من كل حدب وصوب حاملين أوجاعهم فى صدورهم وقلوبهم التى أثقلتها الهموم والمرض على أمل العلاج والرجوع مرة أخرى أصحاء أو على أقل تقدير اختفاء الألم ولو تدريجيا ليتمكنوا مجددا من العودة إلى صفوف الشقاء فى الحياة.
معهد القلب بإمبابة الذى من المفترض أنه يعالج القلوب المريضة التى تحتاج إلى رعاية وأطباء من نوع خاص يفتقر إلى أبسط المقومات.
فى طريقك إلى معهد القلب بإمبابة تجد البوابة الرئيسية «مزينة بالرخام» أمامها حديقة صغيرة يتوسطها نافورة مقابلة لبوابات غير مسموح للمرضى بالدخول من خلالها أو الاقتراب منها، وكأنهم سيشوهون الصورة الجميلة التى تحاول إدارة المعهد رسمها للجمهور، فالمرضى لهم بوابات أخرى تقع خلف البوابات الرئيسية يجتمع حولها البائعون الذين يعرضون بضائعهم أمام المعهد بشكل يعوق دخول المرضى إليه، بالإضافة إلى وجود العديد من «الغرز» التى نصبت على الرصيف المقابل لتقديم «الشاى والمشروبات للمرضى»، التى افترشت بشكل عشوائى.
حول المعهد وأمام البوابة الفرعية وفى الشوارع الجانبية كان هناك العشرات من الأهالى الذين افترشوا الطرقات وبعضهم ذهب فى نوم انتظارا لأن يتم السماح لهم بالدخول للمعهد وترى وجوه المرضى تكتسى بالحزن والألم وهم ينتظرون دورهم للكشف فى العيادات الخارجية.. عشرات من المرضى أغلبهم من المسنين ينتظرون فى طوابير طويلة من أجل توقيع الكشف عليهم.
داخل المعهد لا مكان للاعتراض أو الشكوى حتى ولو قضيت ساعات اليوم كلها واقفا أو إذا لم تتمكن من الكشف أو حتى إذا لم تتمكن من زيارة مريضك فغير مسموح بالمعهد إلا بإبداء الطاعة فقط وإلا تعرضت للفتك بك من قبل أفراد الأمن مفتولى العضلات الذين يحرصون على ارتداء ملابس ضيقة ويتجولون فى كل أروقة المعهد بنظرات حادة يصوبونها إلى المرضى والأهالى معا.
وعند الباب الخارجى لاحظنا بعضهم يمارس بعض المزاح باستخدام المطاوى أمام المرضى.عند الدخول لم نجد من يعترضنا وبعد عدة أمتار داخل المعهد الذى تنتشر به القمامات كانت هناك بوابة حديدية صغيرة يقف حولها وخلفها عدد من العاملين بالمعهد كان همهم الوحيد هو الحصول على ثمن التذكرة من الراغبين بالدخول وبعد الحصول عليها بإمكانك التجول كما تشاء فى المعهد


فى الدور الثانى وعند باب العناية المركزة تصادف وجودنا مع ميعاد فتح الزيارة وقفنا بصحبة عدد من الأهالى الذين انتابهم الفزع بعد وصول أصوات تشاجر وكان المشهد كالتالى عدد من «البودى جاردات» الذين رأيناهم خارج المعهد ينهالون بالضرب على أحد أهالى المرضى الذى اعترض على أسلوبهم العنيف مع الأهالى.
خلف الأبواب الحديدية للعناية كان هناك العديد من الحكايات والمشاهد المأساوية ومن بينها حكاية عم «ف» الذى تمثل قصته نموذجا عما يعانيه أهلنا البسطاء ممن لا يملكون الأموال أو المعارف التى تمكنهم من اختراق الحواجز بكل سهولة.
شعر بألم فى صدره فكر للحظات أن يبقى ولا يخرج إلى العمل لكنه فكر للحظات فى مطالب المنزل توضأ وصلى الفجر وأخذ «عدته»، وذهب إلى ورشة الحدادة التى يعمل بها ساعات طوال وهو يقف أمام النار العالية شعر بالتعب ولكنه تحامل على نفسه كان يصمم على إكمال يومه غير منقوص حتى يحصل على أجره كاملا.
مع تواصل العمل وتصبب العرق منه مد يده إلى الماء المثلج شرب بعض القطرات وبعدها سقط وهو ينظر إلى من حوله لا يقدر على الحديث، حمله زملاؤه إلى المنزل وسارع ابنه بأخذه فى سيارة أجرة إلى مستشفى السلام ولكن سوء المعاملة وارتفاع التكلفة جعلا الابن يعدل عنها ويتجه إلى «الدعاة» التابعة لوزارة الأوقاف، هرول إلى الداخل طالبا المساعدة لنقل والده ولكنه فوجئ بتعامل جاف من قبل العاملين بها طلب مقابلة أحد المسؤولين عن المستشفى ظنا منه أن سوف يستجيب لدموعه التى تطلب الرحمة بأبيه الذى يصارع الموت ولكن وجدهم يطالبونه بوضع مبلغ 5 آلاف جنيه تحت الحساب حتى يسمح لوالده بدخول المستشفى ولم تفلح معهم كل المحاولات التى بذلها الابن مرة أخرى نصحه سائق التاكسى بالتوجه به إلى معهد القلب «بإمبابة» وأمام البوابة الرئيسية للمعهد شاهد الابن المساحات الخضراء والبوابة الرخامية أسرع بالتوقف أمامها لإنزال والده أخبره أحد العاملين بالأمن بفظاظة أن يتجه إلى البوابة الأخرى.
ورفض سائق التاكسى الدخول إلى هناك بسبب الباعة الذين ينتشرون فى كل مكان، حمله ابنه بين يديه بمعاونة عدد من الأهالى، ويكمل الابن: «داخل المعهد لم يطالبنى أحد بأموال ولكنهم طلبوا منى الانتظار حتى يحضر الطبيب الجراح حيث قاموا باستدعائه من المنزل الذى تأخر عدة ساعات ومع التدهور الحاد فى حالة والدى لم أحتمل الانتظار فقمت بالصراخ حتى قاموا بإدخاله إلى العناية المركزة.
ويضيف: «حضر الطبيب وأخبرنى أن أبى يحتاج إلى تركيب دعامتين الأولى سيتكفل بها المعهد وأخرى يجب شراؤها لأنها غير متوافرة داخل المعهد والتى قمت بالسؤال عنها فى مختلف المستشفيات والتى اختلفت أسعارها من مكان لآخر من «20 ألفا إلى 30 ألفا إلى 12 ألفا، حتى استطعت شراءها من المندوب الجالس باستمرار داخل المعهد وقمت بشرائها منه بمبلغ «8000 آلاف جنيه» أى أقل من ثمنها بنحو 4000 جنيه.
على السرير المجاور كان يرقد عم عبدالله مبتسما رغم الألم الذى يشعر به، أشار لنا فى هدوء إلى أن نقترب منه، وقال هامسا الدواء غير متوافر ونضطر فى أحيان كثيرة أن نحضره على نفقاتنا الخاصة «وإحنا ناس على باب الله هانعمل إيه يعنى؟» أثناء انصرافنا حرص عم عبدالله على التأكيد علينا بأن لا نخبر إدارة المستشفى بشكواه قائلا: «يا ابنى إحنا ناس غلابة ومالناش حد، كويس إننا قاعدين هنا لغاية لما ربنا يفتكرنا».

◄◄«المنيرة العام»/ «ملائكة الرحمة بلا رحمة».. فتاة تصرخ فى الطاقم الطبى: «أمى بتموت يا ظلمة.. حرام عليكم».. والأطباء لم يحضر أحد والخدمة العلاجية «تحت الصفر»
ممرات ضيقة مظلمة تكتظ بالمرضى الذين افترش عدد كبير منهم الطرقات، منتظرا دوره فى الكشف، والدخول إلى العيادات المغلقة لفترات طويلة.. صرخات وآهات متتالية تتردد داخل المبنى دون أن تجد من يستجيب لها، فالأطباء غير متواجدين ولا يمكن العثور عليهم، ويضاعف من المعاناة هو التعامل الجاف من قبل الممرضات.
ذلك هو الحال داخل مستشفى المنيرة الذى له باع طويل فى التعنت مع المرضى، فبمجرد كتابة اسم المستشفى على محرك البحث الشهير «جوجل» تظهر عشرات القصص التى تؤكد تدنى مستوى الخدمة الطبية.
بالتجول داخل المستشفى لا يكف العاملون بالأمن الإدارى عن متابعتنا ومعهم عدد من الممرضات، والسؤال أكثر من مرة عن سبب الحضور، ولفت نظرنا وجود العديد من بقع الدماء تنتشر بالقرب من صيدلية المستشفى التى تجمع عندها عدد من العاملات اللاتى كن ينظرن إلى الأرض فى اتجاه بقع الدماء بسؤالهن رفضن تفسير وجودها مكتفيات بقولهن «حسبنا الله ونعم الوكيل ربنا كبير هو حبيب الغلابة»، بعدها كانت هناك صرخات متتالية تبين أنها لفتاة دون العشرين عاما تخرج غاضبة من إحدى حجرات الأطباء قائلة «أمى بتموت يا ظلمة، حرام عليكم»، وهى تشير إلى بقع الدم التى كنا نسأل عنها منذ قليل، والتى تمت إحاطتها من قبل الأمن الإدارى ومنعها من الحديث، كانت كلماتها كفيلة لبذل أى محاولات للوصول إليها، واستطعنا الحديث معها رغم محاولات إسكاتها بحجة الحفاظ على سمعة المستشفى، وعدم استفزاز الأطباء الذين يتولون متابعة حالة والدتها، والتى لم تستجب لهم، وكان لديها قدر كبير من الإصرار على فضح أساليب التعامل المهين مع المرضى، وتذكرت كيف بدأت رحلة المعاناة مع والدتها المريضة عندما شعرت بآلام حادة أفقدتها القدرة على الاتزان لحظات، وغابت بعدها عن الوعى وحملتها ابنتها الوحيدة وتوجهت بها، مسرعة إلى أقرب مستشفى لمنزلهم وهو «مستشفى المنيرة»، السيارة المتهالكة وازدحام الطريق جعلتهما يقطعون المسافة خلال أكثر من نصف ساعة، رغم أن المستشفى لا يبعد عن منزلهم سوى دقائق معدودة داخل السيارة التى تحمل والدتها، حبست أنفاسها عدة مرات، خاصة مع تغير لون والدتها، وشعورها بشىء لزج ساخن يلامس قدميها، تحققت منه وفوجئت بأنه دم نتيجة نزيف حاد من والدتها، عندما توقفت السيارة أمام الباب الرئيسى للمستشفى صرخت فى العاملين بالأمن الإدارى لمساعدتها فى إنزال والدتها التى تنزف من السيارة، والذين استجابوا لها على مضض «مفيش كرسى متحرك دخليها على رجليها»، كانت هذه أولى الكلمات التى سمعتها من إحدى الممرضات بالمستشفى، رغم شرحها لحالة والدتها السيئة.


فى الداخل لم تشفع حالة الإعياء الشديد التى تعانى منه الحاجة «……»، وآثار النزيف على جلبابها الأسود لدى الأطباء ليهتموا بها، واكتفوا بكشف ظاهرى وكتابة بعض الأدوية، والتى لم تجدها داخل صيدلية المستشفى.
تدمع عيناها حينما تروى كيف خرجت بوالدتها من حجرة الكشف وهى تئن من الألم والنزيف مستمر، والتى سببت بقع الدماء التى شاهدناها، وسألنا عن سببها وتحكى لنا عن هرولتها فى جميع أرجاء المستشفى للبحث عن طبيب «عنده قلب» على حسب وصفها دون فائدة حتى نجحت أخيرا فى إعادة الكشف مرة أخرى على أمها مؤكدة «لولا صرخاتى وخوف المستشفى من الفضايح كانت أمى زمانها بتنزف لغاية لما تموت»، وبالذهاب إلى صيدلية المستشفى تبين وجود عجز كبير فى الأدوية، وتقول إحدى المشرفات هناك «المشكلة الرئيسية هنا فى المستشفى هى عدم توافر أنواع عديدة من الأدوية التى لا غنى عنها للمرضى، وبرغم اعتماد المستشفى على التبرعات التى تأتى من أهل الخير إلا أنها لا تكفى، ويجب على وزارة الصحة تدارك هذا الأمر، قبل مغادرتنا للمستشفى استوقفنا رجل ستينى بملابس رثة يعمل على البوابة الرئيسية للمستشفى ليشرح لنا معاناته مع مرض الفشل الكلوى الذى يتطلب أموالا كثيرة تعينه أو تمكنه من إجراء عملية الغسيل، وشراء الأدوية التى تكلفه 300 جنيه أسبوعيا، وقبل أن يستكمل جاء مشرف الأمن ينهره بشدة قائلا له «أنت واقف بتشحت» والذى اكتفى بطأطأة رأسه معتذرا عن تقصيره فى عمله.

◄◄«الصف»/ هنا تنهار المنظومة الصحية.. العاملون: «دى خرابة.. إحنا هنا معندناش إمكانيات لأى حاجة.. اللى ييجى هنا سليم بيموت»
إذا كانت هناك مسابقات لأسوأ المستشفيات فلا شك أن مستشفى الصف سوف يحوز المركز الأول بجدارة فهو مثال حى على انهيار المنظومة الطبية فى مصر والعبث بأرواح المصريين أو للدقة الفقراء منهم.
المستشفى عبارة عن مبنى متهالك يخيل للناظرين من الوهلة الأولى بأنه مدرسة مهجورة أو منزل تركه أصحابه من زمن بعيد.
الباب الرئيسى للمستشفى ضيق جدا لدرجة أنه لم يتضح ملامحه إلا بعد خروج مجموعات متدافعة تبين أنهم مجموعة من العاملين بالمستشفى الذين رفضوا الإجابة على أى سؤال أو استفسار باستثناء موظفة قالت لنا وهى مسرعة «جايين تسألوا على إيه دية خرابة إحنا لما بنصدق نخرج منها».
داخل المستشفى كانت الجدران متسخة يكسوها السواد ومتهالكة نتيجة عدم إجراء الصيانة منذ سنين، تظهر فيها الشقوق بشكل واضح. وبالوصول إلى غرف الاستقبال التى كانت عبارة عن حجرات ليس لها أبواب وبداخلها سرير واحد تظهر القاذورات بوضوح عليه، بالإضافة إلى بقع الدماء التى كانت تزين الأرضيات بشكل يجعلها بؤرا للأمراض الفتاكة المعدية.
أما الحجرة المجاورة فتحتفظ بلافتة خشبية مدون عليها عبارة «غرفة عمليات صغرى» وتنبعث الرائحة الكريهة منها، ولا تستطيع الوقوف أمامها أكثر من دقائق معدودة، بسبب الرائحة الكريهة التى تنبعث منها.
وبالصعود إلى الدور الثانى عبر درجات متهالكة مهشمة كنا نصعد عليها بشكل فردى حرصا على عدم تحطمها وتجولنا فى ممرات ضيقة مظلمة حيث توجد سراير المرضى التى كان أغلبها بدون غطاء أو مراتب من الأساس ولو وجدت فهى ممزقة أو متسخة، كما أن هناك بعض الغرف لا يوجد بها مصابيح إنارة أصلا.


وفى نهاية الممر الذى يعج بمختف أنواع القاذورات وجدران تنشع منها الرطوبة تجد غرفة لا تصلح للمعيشة الآدمية، وكانت المفاجأة أنها غرفة العناية المركزة تنفتح أبوابها على مصراعيها بها سريران بفراش متآكل أحدهما مهشم تماما والآخر تمدد عليه شاب كان يعانى من غيبوبة «كبدية» حسبما أكدت المشرفة لنا، وتحتوى الغرفة على ثلاثة أجهزة للتنفس وأوضحت المرافقة أن اثنين منهما لا يعملان، الغرفة كانت خالية من أى مستحضرات طبية ولا مجال للسؤال عن مكافحة العدوى، فالغرفة تعتبر مأوى للأوبئة وأمام حالة الشاب المريض وتألمه قالت الممرضة «ده لازم يتنقل حالا لمستشفى المعادى إحنا هنا معندناش إمكانيات لأى حاجة»، وأضافت «اللى ييجى هنا سليم بيموت يبقى حال العيان هيبقى إيه؟».
وأضافت زميلتها: ليس المرضى فقط المعرضون للأخطار بل العاملين أيضا، فالمستشفى يفتقر إلى أبسط المقومات ولا تتوافر به أى مقومات للوقاية من العدوى.
وبالسؤال عن أحد المبانى الجديدة الملاصقة للمستشفى قالت إنه المستشفى الذى وعدونا أكثر من مرة بالانتقال إليه مع تغيير وزير الصحة فى كل حكومة وإلى الآن لم يأت الوزير الذى يحقق تلك الأمنية.

◄◄«جامعة الأزهر»/ %30 عجزًا فى طاقم التمريض.. والممرضات يفضلن الزواج.. أموال المنشآت العلاجية الخاصة تدفع الممرضات إلى الفرار من الحكومة
أكد الدكتور إسحاق عيسى، عميد كلية الطب بجامعة الأزهر، أن أزمة التمريض تعد من أبرز التحديات التى تواجه مستشفيات جامعة الأزهر حيث تصل نسبة العجز إلى %30، لافتا إلى أن هناك عجزا شديدا فى أعداد طاقم التمريض بالمستشفيات الحكومية بصفة عامة.
وأضاف إسحاق، أن هذا العجز سببه فرار قطاع كبير من الممرضات للعمل فى المستشفيات الخاصة، وقيام بعضهن بعدم إنهاء مدة التكليف التى تمتد إلى عامين بعد التخرج، وبالتالى تلجأ الإدارة إلى إبلاغ النيابة الإدارية لإحضارهن لاستكمال مدة تكليفهن.
وأكد عيسى، أن إدارة الجامعة تتكبد تكاليف باهظة فى تخريج دفعات من الممرضات، بالإضافة إلى توفير راتب شهرى يتفوق على الراتب الشهرى للأطباء حديثى التخرج، لكن قطاعا كبيرا منهن يفضلن الزواج والعودة إلى محل إقامتهن.


وتروى سهير إحدى ممرضات مستشفى السيد جلال التابعة لجامعة الأزهر، أن المأساة بدأت عقب التخرج وأداء تكليفها بالمستشفى، الذى يستمر لمدة عامين، وقالت «لا يوجد سكن للممرضات فنضطر لتأجير سكن على نفقتنا الخاصة بالإضافة إلى أن الراتب الأساسى لا يزيد عن 750 جنيه».
وتابعت سهير، أن أبرز مطالب الممرضات تتلخص فى إنهاء تكليفهن من القاهرة وقيدهن بمستشفيات أخرى تابعة لمحل إقامتهن، مشيرة إلى أن التوسعات الأخيرة بافتتاح أقسام جديدة بالمستشفيات تمثل عبئا جديدا على طاقم التمريض المتواجد وتزيد ساعات العمل.

◄◄«حلوان العام»/ تحت حصار مياه الصرف .. الصحى.. والقمامة «سيدة الموقف» .. المبنى متصدع تملؤه الشقوق.. والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان ولا عزاء للمرضى

مستشفى احتل موقع الصدارة فى «الجروب» الذى أسسه بعض الأطباء المستقلين للحديث عن مساوئ المستشفيات الحكومية وهو مستشفى حلوان العام، والذى قام «الجروب بوضع العديد من الصور تشير إلى الأوضاع المأساوية داخل المستشفى، وكان ذلك كفيلا بزيارته للتعرف على الأوضاع بداخله.
مباشرة فى الطريق إلى المستشفى وبسؤال المارة عن الطريق إليه كنا نحصل على الإجابة بسخرية واضحة، وكان هناك من يبادر بتقديم نصيحته بالبحث عن مستشفى آخر.أحد المارة قال لنا: «لا تقولوا مستشفى حلوان العام، وإنما خرابة حلوان، فالأوضاع المأساوية هناك فوق القدرات البشرية على التخيل والتصور».
تلك بداية غير مبشرة إذن، ذلك أن عابر طريق آخر قال لنا بحروف غاضبة: «إن كان لكم عزيز يتعالج بالمستشفى فأخرجوه منها ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، فالمكان ليس إلا بوابة عبور إلى الحياة الآخرة.. هنا الموت مجانا، ولا عزاء للغلبان».
فى نهاية محطة حلوان وبعد الانتهاء من طريق شاق يطلق عليه الأهالى هناك «المطلع» وجدنا جدارا متصدعا يتوسطه بوابة حديدية متهالكة وحيدة غير واضحة المعالم، ولا توجد حتى لافتة تبين ماهيتها، وبرغم أن هناك من أكد أن ذلك المبنى هو مستشفى حلوان حرصنا على التأكد مرة أخرى، ولكن تدافع مجاميع كثيرة وبسرعة كبيرة كانت تخرج مهرولة من المبنى لم تمكنا من التأكد من طبيعة المبنى.
ها نحن نقف إزاء المستشفى، لكن الدهشة تعقد الألسنة.. دهشة مرة مريرة، مبعثها أن ما نراه من مبنى لا يعدو إلا أن يكون خرابة بكل معانى الكلمة، ومع مظهر المبنى يندلع سؤال.. سؤال يغرق فى تفاصيل الوجع: هل هذه حقا دار علاج فى القرن الحادى والعشرين؟
عدم التأكد من طبيعة المبنى وتصنيف المستشفى كأحد أسوأ المستشفيات الحكومية فى مصر جعلنا فى حيرة حول كيفية التحايل للدخول إلى هناك، حيث تخيلنا وجود رجال الأمن الإدارى الخاص بالمسشتفى أمام البوابة ليمنع الغرباء الذين يكشفون الأوضاع المتردية ولكن تبين أنها مخاوف لا أساس لها، فالمستشفى لا يوجد به من يسأل داخل ماذا يريد.
دفعنا البوابة التى كانت غير مغلقة ولا يوجد من يحرسها ودخلنا على يمين الباب، وكانت هناك غرفة بها رجل سبعينى السن، وكان يجلس بجوار ماكينة عملاقة فى سكون تام، اقتربنا منه وعرفنا منه أنها مولد كهربائى يقوم بتشغيله فى حال انقطاع التيار، موضحا أن التيار دائم الانقطاع بالمستشفى.
أمام غرفة المولد كان هناك مبنى متهالك مهدد بالانهيار، فى أى لحظة، خاصة بعد ظهور التشققات والشروخ بشكل واضح، وتآكل مواسير الصرف، وسريان المياه على الجدران التى تلونت بالخضار بسبب نمو الطحالب.



المبنى كانت تظهر من شرفاته بعض الملابس التى تم نشرها، تصورنا للحظات أنه مسكن للعاملين، ولكن أخبرنا عامل المولد بأن ذلك الدور خاص بوحدة الغسيل الكلوى.
عندما هممنا بمغادرة الرجل ومواصلة السير لاستكشاف المستشفى همس الرجل ناصحا «يا أساتذة بنصحكم ماترحوش هناك علشان ما تعرضوش أنفسكم للبلطجية اللى موجودين فى القصر المهجور».
أسفل المبنى كان هناك العديد من الغرف المغلقة بأبواب خشبية متهالكة، عند الاقتراب منها تبين أنها عيادات «العظام» و«أنف وأذن وحجرة» يحيطها القاذورات من كل جانب، فضلا عن بركة من مياه الصرف التى انتشرت حول المبنى بالكامل.
بعد لحظات ظهرت إحدى السيدات بملابس رثة متسخة تبين أنها إحدى العاملات بالمستشفى، والتى تحفظت فى البداية عند الحديث معنا، ولكن تشجعت بعد ذلك وروت لنا عن العديد من المشاكل داخل ذلك المبنى الذى يطلق عليه مجازا مستشفى، وكيف أن المستشفى يفتقد إلى أبسط المقومات لعلاج المرضى، وأوضحت أنها وزملاءها من العاملات يقمن بأخذ ملابس المرضى لارتدائها.
هل يغسل مرضى الفشل الكلوى ثيابهم إذن؟
ذاك سؤال آخر لا يمكن التوصل إلى إجابته، وهو مشهد من ضمن فسيفساء الفوضى والإهمال التى تتحكم فى المشهد كليا.
ليس الاقتراب إلى وحدة الغسل الكلوى أمرا سهلا، فالروائح المنفرة تداهم الأنوف على الفور، والحشرات الطائرة تكاد تستعمر الجدران والأسقف.. لها فى المستشفى المهمل، وسط المرضى الفقراء «المنسيين» متاع ومستقر آمن، فلم تفكر فى الرحيل.. هل ثمة بيئة أفضل لتلك الحشرات؟
عند الصعود إلى الدور الخاص بوحدة الغسيل الكلوى والذى كانت تنبعث منه رائحة تزكم الأنوف، وكانت جميع الأبواب الخاصة بحجرات المرضى مفتحة وغير مغلقة، حتى إننا قمنا بالدخول عليهم وقت الغسيل دون اعتراض من الممرضة التى كانت تتعامل مع المرضى دون اتباع أدنى درجات الاشتراطات الوقائية، حيث كانت تباشر عملها دون ارتداء قفازات أو ماسك»، وعند الخروج من غرفة الغسيل كان عدد كبير من المعاطف الخاصة بالأطباء متسخة وبعضها ملوث بالدماء موجودة فى منتصف الممر المؤدى إلى وحدة الغسيل الكلوى.
خرجنا بصعوبة من ذلك المكان الذى حرصنا على كتم أنفاسنا طوال التواجد به قدر المستطاع، وكان فى مواجهتنا رجل خمسينى العمر يرتدى معطفا خاصا بالممرضين أو الأطباء، لم تتضح معالمه أو ألوانه بسبب كمية القاذورات التى علقت به سألناه عن سر الرائحة الكريهة التى تنبعث من ذلك الدور، فقال مبتسما إن ذلك الدور يحتوى على الغرفة الخاصة بالنفايات الطبية التى يتم جمعها وتخزينها حتى تقوم الشركة المختصة بأخذها، وبسؤاله عن اتباعه لأى إجراءات وقائية أجاب مبتهجا «أنا معنديش أى حاجة ومعرفش الحجات اللى بتقولوا عليها دية ده أنا اتشكشكت كذا مرة من الإبر اللى بلمها».
هكذا الحال.. ففيما تولى كل دول العالم، وخاصة «فى أوروبا والدول المتقدمة» حسب العبارة الشهيرة بفيلم «الإرهاب والكباب» توجد وسائل صحية للتخلص من النفايات الطبية، وهناك أيضا آليات لفصل هذه النفايات إلى صلبة وسائلة، تمهيدا لإحراقها فى محارق طبية متخصصة، لكن شيئا من هذه الإجراءات ليس متبعا فى مصر.





المصدر اليوم السابع


تعليقات

المشاركات الشائعة