التحدى الكبير !

بريد الجمعة يكتبه:أحمد البري






توقفت طويلا أمام رسالة «الدرس البليغ» التى روى لك فيها كاتبها قصته مع زوجته الراحلة شديدة الإخلاص له، والتى سلمته كل ما بحوزتها من ميراث، ووكلته فى ادارة أموالها، لدرجة أنها اصرت على أن يكتب ممتلكاتها باسمه، كما كانت تعطيه راتبها أول كل شهر للإسهام به فى مصاريف المنزل
 وهو يعادل ثلاثة أمثال مرتبه، وبعدها استوقفتنى رسالة «الزوجة المستثناة» للعروس الشابة التى رأت فى هذا النموذج النسائى استثناء باعتبار أن الأصل فى المعاملة هو أن تكون للزوجة ذمة مالية منفصلة عن زوجها، وأن الثناء على تصرف زوجة كاتب رسالة «الدرس البليغ» قد يدفع الكثيرات الى أن يحذون حذوها، وأنها بعثت بتعليقها اليك لتأكيد هذا المعنى، فلا يعقل ان تسلم الزوجة كل مالها الى زوجها، وتترك مستقبلها رهينة لتقلباته!.
وأرجو ان تسمح لى بأن أعرض عليك جزءا من قصتى مع زوجى يتعلق بهذا الجانب المهم من جوانب الحياة الزوجية، الذى أصبح محورا للحديث فى كل البيوت المصرية، مع صعوبة المعيشة، وزيادة الأعباء، فعندما تقدم لخطبتى، ونحن فى سنوات الشباب الأولى، لمست فيه الطيبة والوداعة، واحترام أهلى، وتقديره الكبير لى، وكانت هذه الصفات وحدها كفيلة بأن أوافق عليه، وأن أرى فيه نموذجا مغايرا للكثيرين ممن تقدموا لطلب يدى وقتها، وبالطبع كان مثل كل شاب فى مقتبل العمر متعثرا ماديا، خصوصا أنه كان يعمل فى اثناء الدراسة لتوفير متطلبات أسرته ومصاريف أخوته، فزادنى ذلك تمسكا به، ووقفت الى جانبه فى كل خطوة، ولم أبخل عليه بشىء، فحتى ملابسه ساعدته فى شراء المزيد منها، ولم تكلفه أسرتى الكثير فى تأثيث عش الزوجية، ولم تلزمه بما يتم الزام العرسان به من شبكة ومهر وخلافه، وتزوجنا، وأقبلت على حياتى معه بكل سعادة وسرور، وطرقت معه أبواب العمل، فتعقبت فرص التوظيف بالدول العربية، ووقع اختيارنا على جهة كبرى طلبت مصريين للعمل بها، ووفرت له ثمن تذكرة السفر بما كان معى من نقود، وودعته فى مطار القاهرة بالدعوات الى الله أن يعيده الينا سالما غانما، وأن يحفظه من كل سوء، ويفتح أمامه أبواب الرزق، ويوفقه الى ما فيه الخير.

ومنذ الشهر الأول لعمله بالخارج لم يبخل علينا بشىء، فكان يرسل راتبه كاملا باسمى ويحجز لنفسه جزءا بسيطا للمعيشة، ومرت الأيام، ورزقنا الله بطفل جميل فاكتملت سعادتنا به، واشتريت شقة بالمدخرات التى وفرتها من راتبه، وبعدها تبدلت أحواله، وتعثر ماديا فلقد واجه عقبات عديدة وحاصرته المتاعب فى البلد العربى الذى يعمل به، ويوما بعد يوم ضاقت الدنيا من حوله وصار قليل الحيلة فى مواجهة الآخرين، فطلبت منه أن يعود الى مصر، وأننا سوف نبدأ معا من جديد، فرفض بإصرار وظل هناك سنة كاملة بلا عمل، ثم اضطر الى العودة الينا، وهو خالى الوفاض، وتبدلت طباعه، فصار عصبى المزاج، ويثور لأتفه الأسباب، وشيئا فشيئا ومع الإلحاح على أن أعرف ما يخفيه عنى، أدركت من بين كلماته وإشاراته، والاتصالات التى أجراها مع آخرين، انه كان على علاقة بزميلة له تكبره بسبعة اعوام، وأنها كانت ترغب فى الزواج منه، وقادتنى المصادفة الى العثور على صور، وتسجيلات لهما، ورسائل متبادلة بينهما، ولم أصدق عينى، وخارت قواى وصرخت فيه، بأن هذه العلاقة ربما تكون السبب فيما جرى له، وكنت قد علمت بعلاقته بزميلة أخرى تعرف عليها قبل زواجنا، وأفهمنى وقتها أن علاقتهما انتهت بمجرد ارتباطنا، لكنى تأكدت أن اتصالاتهما لم تنقطع طوال سنوات سفره، كما كانت على اتصال دائم باهله، واعتبرت مكالماتهما معا أمرا عاديا، برغم عدم وجود مبرر لها، فالحقيقة أننى لم أكن أريد الدخول فى صدام معه، وعندما عرفت بحكايته الأخرى حسمت أمرى بالذهاب إلى أهلى إلى أن يجد حلا لهذه المشكلة التى تغاضيت عنها كثيرا حتى وصلت حاله إلى ما صارت إليه!

وبعد عدة أيام اتصل بى وأقسم بالله أنه إقتناعا برأيى، ونزولا على رغبتى، قطع علاقته بالاثنتين، ولأنى أميل دائما الى الجانب الايجابى، صدقته، ورجعت الى بيتى، ومع الأسف الشديد سار على الدرب نفسه، وتبين أن ما قاله لى كان مجرد تطييب لخاطرى لكى لا أطلب الطلاق!، واستمر عامين كاملين على هذا الوضع، إلى أن انسحبتا من حياته.

وهكذا فى كل المواقف التى مررنا بها، كنت التمس له الأعذار، وأعنف نفسى بأننى فى أحيان كثيرة اكون عصبية فى التعامل معه، ولم أعطه «ريقا حلوا»، وفى كل مرة أجد منه سلوكا يغضبنى، وكنت أتماسك من أجل أولادى، ونحن نعيش منذ عودته من الخارج على راتبي ومساعدات أهلى، فالعمل الذى التحق به زوجى لا يكفى دخله منه متطلبات المعيشة سوى لعدة أيام، وهو لم يستقر فى وظيفة تدر عليه دخلا كبيرا، وقد جربت أن آخذ بنصيحة من حولى بألا أنفق على البيت، وأن أترك له المسئولية، فكان يستدين من الآخرين لكى يوفر لنا مستلزمات المعيشة، ونفقات الأولاد، فلم أتحمل هذا الوضع وتحديت نفسى والجميع، وتوليت مسئولية أسرتى كاملة، فأموالى وأمواله فى النهاية لأولادنا، ولا يعقل أن يكون معى مال، وابنى يحتاج الى العلاج فأضن عليه بالدواء، بدعوى أن أباه هو المسئول عن علاجه، أو ان تكون الأسرة فى حاجة الى أى مطلب من مطالب الحياة، فلا ألبيه لها بالحجة نفسها، فالدنيا كلها لا تساوى أن نتصارع فيها، ونحول حياتنا إلى مشاحنات.

ورغم ما فعله زوجى فإننى اعلم جيدا لو ان بحوزته أى أموال لن يبخل بها على أولاده.. صحيح أننى لست ملزمة بالانفاق عليهم، لكن يجب أن أبادر الى تقديم كل ما فى وسعى من أجلهم، فلا يهمنى أحد فى الدنيا سواهم.. وبصراحة مطلقة أجدنى اليوم قد أضعت زمنا كبيرا فى مشاحنات لا طائل منها، وما قلته لزوجى، وما استفدته من دروس الحياة، هو أن من يخن زوجته يخطئ فى حق نفسه، وقد يتجرع الكأس نفسها على الجانب الآخر، فالدرس البليغ حقا هو المثل القائل «لو زدت لزاد السقا».. واقول لكل امرأة تفكر فى الارتباط برجل متزوج، ابتعدى عنه، ولا تصدقى أن زوجته «معقدة»كما يدعى لك، فهذا هو الباب الخلفى الذى يدخل منه الى قلبك، واقول لكل زوج: إن اقتربت من امرأة لا تحل لك، فتأكد أن هناك من يتربص بزوجتك.. وعلى كل زوجين أن يعملا على ابقاء الود موصولا بينهما، وان يراعيا الله فى اولادهما، فهم الذين يدفعون الثمن فى كل الظروف والأحوال.. وأنا من جانبى أضحى بكل ما معى من مال، ولم أفكر يوما فى ان البيت مسئولية الزوج، فحتي السيارة اشتريتها وتركتها له وهذه ليست سلبية منى، ولكنى أحب اسرتى، وأرى أن السلام النفسي لأبنائى فى وجودهم بيننا، فزوجى هو الأقدر على القيادة برغم أنه ينكر الجميل فى كل شجار أو خلاف ولو بسيطا.. فهذه هى قناعتى فيما يتعلق بدور الزوجة وذمتها المالية، وعلاقتها بزوجها وأولادها، فهل تؤيدنى فيما ذهبت اليه؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد واجهت تحديا كبيرا بعزيمتك وإصرارك فحققت ما تطمحين إليه بالحفاظ علي أسرتك واحتواء زوجك، ولم تبالي بالصعاب الجمة التي اعترضت مسيرتك في الحياة.. واجهت تعثره بمؤازرته بمالك، ولم تبخلي أو تلقي بالا لنصائح من حولك، وأنت مؤمنة بأن المال وسيلة لتلبية الاحتياجات، وليس غاية في حد ذاته، كما يتصور البعض، فيفضلون الطلاق ظانين خطأ أن ما جمعوه من مال سيجلب لهم السعادة دون النظر إلي أي عوامل أخري من شأنها أن تحقق الطمأنينة وراحة البال.. وواجهت علاقة زوجك بآخريين احداهما تكبره بسبع سنوات، وكانت كل منهما تطمع في الظفر به، وربما نالت منه بعض أغراضها، لكنه عاد إليك بصبرك وبصيرتك في التعامل معه بمنتهي الحكمة والذكاء، ورددت عليه المثل القائل «لو زدت لزاد السقا» الذي يحكي قصة واقعية دارت أحداثها بالعراق في مطلع القرن الماضي لتاجر يتمتع بالخلق والدين، والاستقامة، ويساعد الفقراء والمعوزين، ويتبني مشروعات كثيرة للخير، وقد كبرت سنه، وله ولد وبنت، وكان ذائع الصيت، فأراد أن يسلم تجارته لابنه، حيث يشتري بضاعته من الأقمشة والحبوب من شمال العراق لبيعها في الشام، ثم يشتري من هناك الزيوت والصابون ويعود بما اشتراه إلي العراق ليبيعه به، فجلس معه وأوصاه بتقوي الله في السفر قائلا: «يا بني: والله اني ماكشفت ذيلي في حرام. وما رأي أحد لحمي غير أمك».. يا بني «حافظ علي عرض أختك بالمحافظة علي أعراض الناس». وخرج الشاب في سفره وباع واشتري من دمشق، وحمّله تجارها السلام الحار لأبيه الرجل الصالح التقي، وفي طريق عودته إلي العراق، وقبيل غروب شمس أول يوم في رحلة العودة، حطت القافلة رحالها للراحة، ووقف الشاب في حراسة تجارته يرقب الغادي والرائح، وإذا بفتاة تمر من المكان، فنظر إليها، وزين له الشيطان فعل السوء، فهاجت نفسه، واقترب منها وقبلها بغير إرادتها، ثم تنبه إلي فعلته، واستيقظ ضميره، وتذكر أن الله ينظر إليه كما تذكر وصية أبيه، فاستغفر ربه، ورجع إلي قافلته نادما مستغفرا.
وينتقل المشهد إلي الموصل في العراق، والابن مازال في سفره الذي وقع فيه ما وقع، حيث يجلس أبوه في بيته، وإذا بالسقا الذي ينقل الماء إليهم علي دابته يطرق الباب الخارجي لفناء المنزل، وكان السقا رجلا صالحا وكبير السن واعتاد أن يدخل بيتهم، ولم ير منه إلا كل خير، وخرجت أخت الشاب لتفتح الباب، ودخل السقا، وصب الماء في جرار البيت، بينما تقف الفتاة عند الباب فى انتظار خروجه، وما إن وصل السقا عند الباب حتي زين له الشيطان فعل السوء فالتفت يمينا وشمالا، ثم مال إلي الفتاة فقبلها بغير إرادتها قبلة، ثم مضي، كل هذا والأب يري ما يجري دون أن يراه السقا، وكان الصمت الرهيب من الأب الذي سكت طويلا ثم قال «إنا لله وإنا إليه راجعون»، ثم أضاف «لا حول ولا قوة إلا بالله».. وتساءل في نفسه: إن السقا لم يفعل ذلك في شبابه فكيف يفعله اليوم، وأدرك أن ما حدث هو دين علي أهل البيت، وأن ابنه فعل في سفره ما استوجب من أخته السداد، ولما وصل الشاب وسلم علي أبيه، وأبلغه سلام تجار دمشق، ووضع بين يديه أموالا كثيرة ربحها من تجارته، صمت الأب، ولم تعرف البسمة سبيلا إلي شفتيه، وسأل ابنه: هل حدث معك في سفرك شيء، فنفي الابن، وتكرر سؤال الأب ونفي الابن، إلي أن سأله أبوه: هل اعتديت علي عرض أحد، فأدرك الابن أن واقعة ما قد حدثت في البيت، فاعترف بما حدث منه تجاه الفتاة التي قبلها في طريق عودته من دمشق، فروي له الأب ما حدث مع أخته، وكيف أنه قبّل تلك الفتاة بالشام فعاقبه الله بالسقا الذي قبّل أخته قبلة هي دين عليه. وقال له جملته المشهورة «يا بني.. دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا».. نعم ما أصدقها عبارة للتعبير عن أن الإنسان يدين دائما كما يدان..
فما أروع صنيعك يا سيدتي الذي نجحت به في استمرار الابحار بسفينتكم في بحر الحياة، متخطية كل الأمواج والعواصف، وتمكنت من أن تجددي حبك لزوجك، وأن تبيني له الجوانب الايجابية في حياته، بل وتلتمسي له الأعذار دائما، حتي لان جانبه، وأيقن أنه لا توجد من هي أفضل له منك، وهذا درس آخر يجب أن يعيه كل زوج فلا يتخيل أن هناك إمرأة أحسن من زوجته، وأذكر قول ابن الجوزي «أن الإنسان قد يري امرأة في ثيابها، فيتخيل أنها أحسن من زوجته، أو يتصور بفكره المستحسنات، ولا ينظر إلا إلي الحسن منها، فيسعي إلي التزوج والتسري، فإذا حصل له مراده، لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها، ويطلب شيئا آخر، ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل علي محن، منها أن تكون الثانية لا دين ولا عقل ولا محبة لها ولا تدبير! فليعلم العاقل أنه لا سبيل إلي مراد تام كما يريد».
فاستمري في منهجك الرائع بمساعدة زوجك بما أوتيت من مال، وقدرة علي العطاء، وأسأل الله عز وجل أن يعيده إلي رشده، وأن يبعده عن كل ما يغضبه، وهو وحده المستعان.




المصدر الاهرام



تعليقات

المشاركات الشائعة