سعد الدين هلالى.. الفقيه المقاتل

المصدر الاهرام . استاذى يشن حروبا شرسة ضد «الوصاية الدينية» من الفكر إلى السياسة حتى الزى
هو فقيه بدرجة مقاتل.. حربه لأجل الخير والإنسانية والمستقبل.. عدوه هو الوصاية الدينية.. وفى المجتمعات التى اعتادت الوصاية حتى ألفتها واستعذبتها يصبح أمثاله بلا ظهير قوى حتى من جانب أولئك الذين يقاتل لأجلهم.. من الناس العاديين.. لذا فإنه لا تغادره أبدا الهجمات والطعنات.. لكنه رغم ذلك يظل أبدا فى الميدان.. ولا يغادر.
هو الدكتور سعد الدين هلالى أستاذ الفقه المقارن.. ابن مؤسسة الأزهر التى يعتز بها ويدافع عنها.. لكنه أيضا خليفة محمد عبده ورفاعة الطهطاوى وآخرين ممن نالتهم الهجمات فى حيواتهم.. ثم عاد الناس بعد رحيلهم - أطال الله عمره- يستشهدون بأقوالهم ويستعيدون انفتاحهم.. ولا ضير.. فذلك هو قدر كل من سبقوا عصورهم.

قبل عامين.. التقيت الدكتور هلالى فى منزله.. كنت قد عرفت قبلها آراءه وسمعت كلماته.. لذا فقد اخترت أن أقترب منه وأحاوره.. دار الحوار على مدى ساعة كاملة وكان فى جعبتى وقتها من التساؤلات ما قد يحتاج إلى ساعات.. ولكن استمرت بعدها بيننا الاتصالات.. عرفت فكره وفهمت منهجه.. وأصبح لدىّ من كلماته ما قد تتسع له الصفحات.. لكن لا بأس.. نقدم هنا ما نستطيع تقديمه.. ويبقى لكل من يهتم بأمر دينه ودنياه أن يتابعوا الرجل من خلال منابره التليفزيونية والإذاعية المتعددة.. لعلنا نتدرب جميعا على التفكير بعمق وهدوء فى أمور ديننا لأجل مستقبل دنيانا.

بداية من الزى.. يرفض الدكتور هلالى الوصاية.. فيقول لى: تخيل هذا المشهد.. شخصان ركبا معا إحدى وسائل المواصلات.. أحدهما رجل كريم فاضل والآخر ربما يكون سىء الخلق أو ارتكب من الموبقات ما ارتكب.. لكن هذا الأخير كان يرتدى ذلك الزى الذى يرتديه الشيوخ عادة.. المتمثل فى الجبة والقفطان والعمامة.. وهو بالمناسبة ليس زيا دينيا لكنه زى تركى ولا علاقة له بالدين.. عندئذ ترى من منهما سيحترمه الناس أكثر؟.. من الذى سيوقرونه أو يخلون له مقاعدهم؟.. لا شك أنهم سيحترمون الرجل الثانى لأن ذلك الزى له رمزية دينية فى المجتمع وليس فى الدين ذاته.. رغم أن من يرتديه ربما يكون فاسقا أو فاسدا.. وهكذا.. فإن هذا الزى إذن يعطى صاحبه أفضلية لمجرد ارتدائه.. وإذا تحدث مرتديه فى شئون الدين أو أفتى الناس أخذوا بكلامه باعتبار أنه الشيخ فلان.. فهل يعقل هذا؟!.

ومن الزى إلى الفكر.. يقف سعد الدين هلالى شاهرا سيفه.. صارخا فى وجه شيوخ هذا الزمان.. قائلا: لماذا لا تعلمون الناس؟!.. لماذا تكتمون العلم الذى تعلمتموه؟!.. أنتم تعلمتم وعرفتم أن هناك آراء فقهية متعددة فى المسألة الواحدة.. من اللحية والنقاب حتى فوائد البنوك.. هناك آراء مختلفة لفقهاء وشيوخ أجلاء.. أنتم عرفتموها فلماذا لا تنقلونها للناس؟.. لماذا يختار الواحد منكم من بين هذه الآراء الرأى الذى يتوافق مع فكره هو ثم يقدمه للناس على أنه الرأى الوحيد للدين فى المسألة؟.. لماذا لا يعرّف الناس بالآراء الأخرى ولا بأس أن يقول بعد ذلك إنه يتفق شخصيا مع الرأى بكذا وكذا؟.. لماذا لا ينسب الرأى الذى يقوله لنفسه؟.. ما يحدث هو أن الشيخ يختار رأيا واحدا من بين الآراء التى يتسع لها الدين جميعا ثم يقول عنه إن هذا فقط هو رأى الدين.. فهل يعقل هذا؟!.

لكن الدكتور هلالى يجيب بنفسه عن هذا السيل من التساؤلات.. فيقول: الحقيقة إنهم لا يريدون للناس أن يفكروا.. بل يريدون أن يكونوا أوصياء عليهم.. لأنه إذا قام هؤلاء الشيوخ بشرح الآراء الفقهية المختلفة للناس ثم اختار كل إنسان بعد ذلك الرأى المناسب له وفقا لفكره أو لظروفه فإن الشعب سيصبح شيئا فشيئا شعبا فقيها.. حيث سيكون قادرا بالتدريج على استنباط الرأى الفقهى لأنه تدرب على معرفة الآراء المختلفة وأسباب كل منها.. وهنا ستظهر المشكلة بالنسبة لهؤلاء الشيوخ.. إذ لن يكون لهم دور عندئذ.. سيفقدون دورهم.. ووصايتهم.. سيفقدون «أكل عيشهم».. فقد أصبح الخطاب الدينى مهنتهم.. لذلك تجد لسان حالهم يقول للناس: لا تفكروا بل تعالوا لنا ونحن نفكر عنكم ونقول لكم الخلاصة.. أو «البونبوناية».. فهل يعقل هذا؟!.

ومن الفكر إلى السياسة.. يخوض سعد الدين هلالى واحدة من أخطر الحروب.. سألته عما يقوله أنصار التيارات المسماة الدينية من أنهم يهدفون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.. تحدث الرجل بهدوء عالم وحنكة فقيه فقال: سأصل معك إلى «نقطة ذابحة» فاصطبر.. لو أننى دخلت فى نقاش مع أحد أبناء هذه التيارات «واحد سلفى مثلا» فإننا سنستمر فى جدل طويل لا ينتهى.. لكننى لن أفعل هذا.. بل سأقول له: «ربنا يهنيك بفهمك» لكن فهمك هذا لك أنت وليس لى أنا ولا لجارنا.. «طيب نعمل ايه دلوقتى؟».. تعال نرى كيف سنعيش معا.. تعال نتفق على نظام لكى نتعامل جميعا من خلاله.. فنجلس لنتناقش فى البرلمان مثلا.. وكل منا يقول ماذا يريد.. أنت ستقول إن كذا حرام وأنا سأقول لك إننى أراه حلالا.. وربما يأتى شخص ثالث يقول رأيا آخر يشطح فيه تماما.. ماذا سنفعل له؟ ليس لنا حكم عليه.. «مفيش حد فينا نبى والتانى عبد».. إذن لا بد أن نتفق على نظام نوافق عليه جميعا.. هذا النظام هو القانون.. القانون الذى يكون بتراضى كل الأطراف.. لكى ننفذ إراداتنا كلنا معا.. وطالما أنه أصبح لدينا قانون اتفقنا عليه مع بعضنا البعض كبشر إذن فقد أصبح ما يحكمنا هو محصلة إراداتنا البشرية.. «ما ينفعش بعدها بقى يرجع شخص يقول: هذا حلال.. والآخر يرد: لا بل حرام.. ما ينفعش لأننا خلاص اتفقنا.. وأصبح القانون هو السيد».

وهكذا يخوض الفقيه المقاتل سعد الدين هلالى حروبا شرسة.. فى أكثر من ميدان.. من الفكر إلى السياسة حتى الزى.. يواجه الوصاية الدينية ويقف لها بالمرصاد.. يبحث عن تعليم الناس وتفقيههم دون وصاية عليهم.. لكن الناس الذين يعمل لأجلهم اعتادوا الوصاية فى أغلبهم.. قال لى أناس طيبون أعرفهم: «مشكلة الدكتور هلالى أنه لا يقول فى أى مسألة رأيا واحدا.. لذا فهو محيّر.. لماذا لا يقول ما هو رأى الدين؟!».. وقتها ابتسمت.. فقد كنت أعرف أن تخيير الناس بين آراء مختلفة يتسع لها الدين جميعا هو أمر جالب للحيرة عند من اعتادوا الوصاية.. لذا فإن الطريق طويل.. لكنه طريق لأجل الخير.. لأجل فهم الدين بحق.. لأجل التعايش والمحبة والسلام.. فهو إذن طريق يستحق.. وسوف يذكر التاريخ يوما أن فقيها جديدا جاء على رأس هذا العصر.. ليرسم معالم جديدة فى هذا الطريق.. تقود الناس نحو الخير والفهم والحرية.. فقيه عالم.. اسمه سعد الدين هلالى.

تعليقات

المشاركات الشائعة